عندما تحزم الدولة أمرها ايجابا يستجيب لها المجتمع المدني ومكوناته بأطيافه العائلية والعشائرية والمناطقية والطوائفية. هذا ما حصل مع ​الخطة الأمنية​ في طرابلس وما هو متوقع لها في ​البقاع​ الشمالي حيث ثمة حنين لحضور الدولة التي كاد غيابها الطويل أن يؤدي إلى ولادة دويلات شتى وأن يوفر مناخا مؤاتيا لـ"داعش" و"النصرة" بسبب الثغرات الكثيرة.

حسنًا صنع وزير الداخلية نهاد المشنوق عندما أعلن بثبات أنّ الدولة آتية إلى البقاع. وهو أجاد في التوقيت. فالفلتان الأمني أشاع السلب والسرقات وفرض الخوّات وخطف الأمنيين والإحتكام إلى الثأر وهروب رؤوس الأموال وإغلاق مؤسسات اقتصادية وزراعية كثيرة. فحيث لا أمن ولا أمان رأس المال جبان. وهذه الناحية كان قد انتبه إليها رئيس مجلس النواب نبيه بري عندما قال قبل سنة لوفد من البقاع "أنا كفيلٌ بدفع رجال أعمال لبنانيين وغير لبنانيين للقيام بمشاريع اقتصادية في البقاع بمئات الملايين من الدولارات وتوظيف الآلاف عندما تتوقف أعمال السرقات والخطف والخوّات". وواقع الحال وحدة القرار السياسي من جانب السلطة وتأمين حضور الدولة هو الذي يحجب أي انحراف أو شطط في البقاع الشمالي خصوصا إذا تمَّ اصطحاب الأمن برؤية إنمائية وبمعالجة أسباب الخلل في بعلبك والهرمل وعكار المناطق الثلاث التي اعتبرها الإمام السيد موسى الصدر أنها أُلحقت إداريا بلبنان الكبير وبقيت إنمائيا خارجه. وهذه الحقيقة اكتشفها الرئيس الراحل الجنرال فؤاد شهاب حيث حاول وصل المناطق الثلاث بالكهرباء والماء والبنى التحتية والمدارس والآبار الأرتوازية والوظيفة وحلّ المشاكل العشائرية وأسباب النزاع.

لا شك أن الخطة الأمنية في البقاع الشمالي تملك غطاء من رئيس المجلس النيابي نبيه بري والأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله وترحيبا من البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي ومساندة من رئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​ وتعاطفا من أهل المنطقة... لكن كل ذلك غير كاف إذا لم تبادر الدولة إلى معالجة قضايا جوهرية ترخي بظلالها على بعلبك والهرمل وعكار. على رأس هذه القضايا أن هناك ما يقارب 40 ألف مطلوب للعدالة بتهم مختلفة. وهذا العدد مع عائلات المطلوبين يتجاوز المائتي ألف. وأغلبية التهم تافهة وكان يمكن للقضاء إغلاقها بسهولة. وهذه الناحية توقف عندها رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب وليد جنبلاط وأعطى فيها رأيا حكيما عندما طالب الدولة بقانون عفو عام واستنتج بأن غالبية الأحكام مرتبطة بزراعة الحشيش والإتجار بها. ولذلك أفتى بضرورة تشريع زراعة الحشيش وتصنيعه دواء ومخدرا كما فعلت دول كثيرة بينها المغرب. موقف جنبلاط المتفهم لظروف البقاع الشمالي كان موقع تقدير من العائلات والعشائر. فالدولة التي منعت زراعة الحشيش لم توفر البدائل له في الزراعات البديلة ولا في المؤسسات المنتجة ولا في معالجة البطالة المزمنة ولا في ايجاد سوق العمل لآلاف الخريجين من الجامعات ولا في تسويق المنتوج الزراعي. فالأحرى بالمسؤولين أن يطرحوا على أنفسهم سؤال من أين يعيش أهل البقاع الشمالي وعكار وكيف.

إلى ماذا يحتاج أهل البقاع وعكار حتى نضمن أن تكون للخطة الأمنية صدقية ما وحتى لا تتشكَّـل لدى المواطنين قناعة باستحالة الإبمان بـ"فكرة الدولة"؟

قبل أيام جاءني صديق من بعلبك وقال لي رجاء أن تخدمني في موضوع له علاقة بابني... إنه سيتقدم بعد يومين إلى امتحان تدرج في نقابة المحامين للمرة الثانية. فإذا لم يتم قبوله هذه المرة فإنه هددني بأنه سيعود إلى البقاع ويزرع مئات الدونمات بالحشيش ويتحول إلى مطلوب. أروي هذه الحادثة لأكشف المدى الذي وصل إليه أبناء البقاع من خريجي الجامعات. فإلى امتحان في الجيش تقدم ما يزيد على ستين مرشح من بلدتي الهرمل لم يُقبل واحدٌ منهم وقس على ذلك في أمور أخرى تدمع لها العين كما في قصة أب من عائلة علام جاءني إلى مكتبي في بيروت ووضع بين يدي مبلغ 70 ألف دولار وقال لي أنه مستعد لبيع قطعة أرض أيضا إذا توفرت الفرصة لابنه خريج كلية الحقوق أن يصبح ضابطا في مؤسسة أمنية تجري امتحانا لضباط ذوي اختصاص. قلت له احتفظ بهذا المال لعائلتك لأنه سيذهب هدرا ومن جانبي سأقوم بما يلزم إذا توفرت الكفاءة والحظ عند ولدك... أسوق هذه الأمثلة وغيرها الكثير لأضيء على ما يعانيه أهل البقاع وعكار وغيرهم.

باختصار شديد حتى لا تكون الخطة الأمنية إنجازا ناقصا وتمهيدا لانتكاسة واسعة كان أهل البقاع وعكار قد طرحوا على المسؤولين لائحة متواضعة من المطالب تجسّدت في لقاء عمل على نهر العاصي من قبل فعاليات بقاعية وعكارية وتلخصت بـ:

1- التشديد على فكرة الدولة القوية القادرة ورفض صيغ الفيدرالية والكونفيدرالية .

2- سحب سياسات التحدي في علاقات القوى السياسية.

3- إنجاز البنى التحتية في عكار وبعلبك- الهرمل سواء في ما يخص مياه الشفة أو الصرف الصحي والكهرباء.

4- إعطاء سلف للمزارعين وتصنيع المنتوج الزراعي.

5- فرز وتحرير الأراضي في المحافظتين.

6- دعم المؤسسات الإنتاجية الصغيرة لا سيما النسائية منها وحماية الثروة الحيوانية.

7- تشجيع الصناعات الريفية التقليدية من سجاد وحياكة وخياطة وايجاد فرص تسويق لها من جانب الدولة.

8- تشجيع عودة الصناعات الحرفية والمهن اليدوية إلى الأرياف ( حداد عربي، نجار، اسكافي، نول عربي).

9- إنصاف عكار وبعلبك والهرمل في وظائف الفئة الأولى والمدراء العامين والسفراء خصوصا وأن هناك نخبا بقاعية وعكارية مميزة ومهملة ومتروكة وهذا هو التوقيت المناسب لإنصافهم. وهذه النخب موجودة عند السنة والموارنة والكاثوليك والأرثوذكس والشيعة.

10- تنفيذ سدود مقررة على لائحة مجلس الإنماء والإعمار وبمساعدات دولية في جبال عرسال والفاكهة ورأس بعلبك وقرى عكار.

11- إنشاء فروع للجامعة اللبنانية.

12- استحداث قسم لغسل الكلى في المستشفى الحكومي في الهرمل وفي مستشفيات عكار.

13- تكوين مجلس إنمائي مشترك للبقاع وعكارمهمته رسم التصورات ومراجعة المسؤولين.

14- أما المطلب الذي يرهق البقاعيين والعكاريين فيرتبط بمعالجة جدية لقضية المطلوبين والفارين تُطبّع علاقاتهم بمجتمعهم وإلا تحولت بعلبك الهرمل وعكار إلى مجتمع مطلوب وفار. وهنا لا بد من الإشارة إلى تقاعس القضاء وتباطئه.