بعيداً ممّا عبّرت عنه وزارة الخارجية السورية تعليقاً على ما فعلته حكومة أردوغان خلال الساعات القليلة الماضية، بعد قيام الأخيرة بعملية «سطو» كاملة على أراضي الجمهورية العربية السورية، من أجل ترحيل ضريح «سليمان شاه»، فإنّ لدينا جملة من الملاحظات تؤدّي إلى معطيات معينة لا نعتقد أنّ المشهد العام للعملية كان بعيداً منها.

علينا أن نتذكّر جيداً أنّ هناك قصاصة صوتية مسرّبة قبل فترة زمنية من اجتماع أمني لفريق أردوغان، خلاصة هذا التسريب أنّ أردوغان كان يفكّر بعملية بريّة للتدخل في الشأن السوري، غير أنّ كثيرين لم يدركوا جيّداً أبعاد هذا التدخل، حين مالوا باتجاه أنّه تدخل من أجل التأثير الميداني على مجريات الأمور، والحيلولة دون تقدّم الجيش العربي السوري في جغرافيا محدّدة ضمن الأراضي السورية، والحقيقة أنّنا لم نر الأمور كذلك، باعتبار أنّ هدف هذا التدخل كان ذاهباً باتجاه آخر، وهو أنّ رسالة واضحة كانت تريد أن تشتغل عليها حكومة أردوغان وتصدّرها إلى الداخل التركي، كون فريق أردوغان السياسي كان يعاني الابتعاد منه، لأنّ جملة أحداث كانت قد أدّت إلى إيجاد شبه فجوة بينه وبين الشارع التركي، فكان مطلوباً القيام بحدث ما يساهم في إيجاد علاقة جديدة على هذا المستوى، ولا يمكن أن يكون هناك موقف أفضل من تصدير صورة لدفاع أردوغان عن ضريح سليمان شاه داخل الأراضي السورية، والدفع بمشهد يأخذ الوجدان الجمعي لدى الأتراك باتجاه عنوان جامع لهم، وتبدو حكومة أردوغان المدافعة عنه، في ظلّ صعود ونشوء عناوين داخلية تتعلق بفساد هنا وإخفاق هناك كان مطلوباً الخروج منها.

المشهد الآن لم يعد كما كان، ولم يستطع أردوغان العمل على هذا الجامع بينه وبين الشارع، كما أنّ هناك متغيّرات مهمة في ظلّ صعود المشهد، أهمّها أنّ الميدان العسكري لم يعد ذاهباً في الاتجاه الذي عمل عليه فريق أردوغان خلال سنوات العدوان على سورية، لأنّ هناك متغيّراً واضحاً وجديداً وسريعاً يمضي لمصلحة الدولة السورية عسكريّاً!

«أردوغان» كان يدرك أكثر من سواه حقيقة هذه المتغيّرات، وخصوصاً بعد الجدال الأميركي التركي على دور «داعش» من جهة، ومن جهة أخرى حول جدوى تدريب عناصر معارضة للقتال في سورية، إذ إنّ هناك جملة حقائق دفعت حكومة أردوغان إلى تغيير حساباتها، لجهة الميدان بالضبط، إذ بدا واضحاً أنّ القوات المسلحة السورية ما زالت تمتلك قدرتها الكامنة وطاقتها الزاخرة لاستعادة وجودها الكبير ميدانياً والتأثير المهمّ فيه، في ظلّ تقدّمها الأخير على أكثر من محور بالقرب من الحدود مع تركيا، الأمر الذي أدّى إلى إعادة إنتاج مشهد جديد، أساسه أنّ أيّ إمكان لمنع تقدّم وسيطرة الجيش السوري على هذه الجغرافيا لم تعد واردة.

في تقديرنا إنّ الحكومة التركية مع الإدراة الأميركية خلصتا إلى حقيقة مفادها أنّ الجيش السوري لم ولن يتراجع عن استعادة سيطرته على هذه الجغرافيا، وأنّه لما يزل قادراً على التحكم ميدانياً، وأنّ قدرة المجموعات التي تقف في وجه الدولة السورية لم يعد في إمكانها إيقاف هذا التقدّم، فكان على «حكومة أردوغان» إعادة التعامل مع هذه الجغرافيا على هذا الأساس!

عملية «السطو» كانت أساسية، إذ أنّ الجغرافيا لم تعد آمنة بالطريقة التي ساهمت بها «حكومة أردوغان»، خصوصاً في ظلّ تغيّر ميداني مهم قد يسهم في تراجعها عن تحالفها مع تلك المجموعات في هذه الجغرافيا، وهو ما سوف يدفع باتجاه إعادة إنتاج علاقة جديدة معها، حيث يمكن لهذه المجموعات أن تقوم بفعل انتقام للورطة التي وضعتها بها «حكومة أردوغان» ثم تركتها وحيدة.

في ظلّ هذه الحسابات الجديدة عاد ضريح سليمان شاه كي يتصدّر حسابات حكومة أردوغان، بخاصة أنّها تدرك أنّ أيّ تراجع عن الضمانات التي قدّمتها لتلك المجموعات سوف يسهم في تشكيل عمل انتقامي ضدّها، وبالتالي إحراجها أمام الشعب التركي، لا سيما أنّ هناك لحظة موقف سابق لطالما اشتغلت عليه لجهة الضريح ذاته، فكان لا بدّ من القيام بعملية «السطو» هذه واستباق أيّ صعود للمشهد، وتصديره إلى الشعب التركي على أنّه «إنجاز وطني» بالنسبة إلى أردوغان نفسه.

نعتقد أنّ الحكومة السورية كانت على اطلاع كامل بهذه الحسابات، كما أنّ العملية كانت تحت أنظارها، نتيجة أنّ إبلاغاً كان من قبل حكومة أردوغان للقنصلية السورية، والأمر المحتوم أنّ القنصلية أبلغت الحكومة السورية، غير أنّه معلوم جيداً أنّ الحكومة السورية لن تردّ على طلب حكومة أردوغان لأسباب عديدة، أهمّها أنّها لا تريد أن تعطي الشرعية لأدنى تواصل بينها وبين حكومة أردوغان، ثمّ أنّ الحكومة السورية تريد من حكومة أردوغان القيام بهذه الخطوة المهمة، والتي تأتي في سياق استعادة جغرافيا الضريح للأراضي السورية، والتخلص من هذا المسمار العثماني، إذ أنّها الفرصة المهمة جداً لترحيل هذا الضريح وإخراجه من الأراضي السورية.

القيادة السورية تدرك المأزق الذي سقطت فيه حكومة أردوغان بفضل نجاحها في منعها إيّاها من استعمال الجيش التركي في مواجهة الجيش السوري، من خلال تركها للمنطقة فترة من الزمن، والتراجع عن جزء من الجغرافيا ساهم في تظهير حقيقة الحاصل فيها، حيث فوّتت على حكومة أردوغان استغلال لحظة معينة لطالما كانت تعمل عليها، من أجل دفع الجيش التركي للتدخل في الأراضي السورية تحت مقولة «الانتصار للثوّار السوريين»!

نعم لقد سُحبت الذريعة التي كان يعمل عليها «أردوغان» لتدخله في سورية، بدليل أنّه أبلغ القنصلية بالدخول، فهو إذن يعترف بأنّ الدولة السورية هي الجهة الوحيدة المسؤولة عن هذه الجغرافيا، كما أنّه أبلغ الإدارة الأميركية بذلك، ولا يهمّ كثيراً مَن أبلغ من أدواته على الأرض ومن لم يبلغ.

إذن… لو وافقت الحكومة السورية على دخول القوات التركية لكان هذا تنسيق بينها وبين حكومة أردوغان، وهو ما لا تريده، ولو وافقت أيضاً لكان لزاماً عليها أن تستجيب في ما بعد لعودة الضريح إلى أراضيها، لهذا تعاملت مع العملية على أنّها خارج إرادتها وخارج علمها.

نعم جرت عملية «السطو» تحت أنظار السوريين وبعلمهم، لكنّها فرادتهم دائماً في تركيب الأخطاء لخصومهم وأعدائهم، خصوصاً في اللحظات التي يحاول بها هؤلاء التطاول عليهم!