كثيرون من الذين استمعوا المؤتمر الصحافيّ الذي عقده أمين عام جامعة الدول العربيّة نبيل العربي استغربوا قوله: "صيانة الأمن القوميّ العربيّ كانت أهمّ ما صدر عن القمّة العربيّة التي عقدت في شرم الشيخ"، وتكلّم على تهديدات للأمن القوميّ تستدعي ردًّا جماعيًّا. ومبعث الاستغراب يجيء ليس من التوقيت المتأخّر لعملية الاستنهاض تلك، ولكن من سؤال جوهريّ، لماذا لم يقل هذا الكلام بهذا التحديد القوميّ-العقائديّ، حين كانت إسرائيل تفتك بالفلسطينيين، وتذبح الأطفال والنساء والشيوخ وصولاً إلى حربها الأخيرة على لبنان سنة 2006؟ لماذا لم يعتبر العرب العدوان الإسرائيليّ اعتداءً فعليًّا على الأمن القوميّ؟ لماذا لم يعتبروا أنّ الأعمال الوحشيّة والحرب التكوينيّة التي يقودها تنظيم داعش وكلّ التكفيريين تمسّ بدورها الأمن القوميّ العربيّ؟ تلك الرؤية موضوعة برسم نبيل العربي والملوك والرؤساء الذين التقوا في قمّتهم في شرم الشيخ.

ويرنو كلام العربيّ إلى رجاء "أن يعود اليمن قويًّا وموحّدًا ويجب التصدّي للتحديّات لمنع انزلاقه في يد الحوثيين"، ويزداد الاستغراب في مقابل هذا الكلام، لكون قائل الكلام يتجاهل بالكليّة عمق الأزمة اليمنيّة كما تجاهل عمق الأزمة السوريّة و​العراق​يّة... لكنّ عمق الأزمة في اليمن تتكشّف أكثر من أنّ الأوراق قد اختلطت في تراكم معاني الصراع ومحتوياته في إطار واحد. ذلك أنّ المسألة التي بدأت تتضح شيئًا فشيئًا، أنّ الصراع بات إسرائيليًّا-سعوديًّا ليس بوجه إيران، بل بوجه الأميركيين، الذين سيوقعون مع الدول الأوروبيّة المعنيّة بالتفاوض الاتفاق النوويّ على ما رشح يوم الثلاثاء المقبل، وقد دُعِيَ وزير الخارجيّة الروسي سيرغي لافروف ووزير خارجية الصين لحضور التوقيع. وهنا، وفي هذا السياق، توقّف المراقبون عند هجوم وزير الخارجيّة السعوديّ سعود الفيصل على الروس، وربطوه بإطار رفض السعوديّ ليس للتدخّل الروسي في سوريا، ولكن لتوافق أميركيّ إيرانيّ روسيّ، حول واقع سوريا والحلّ السياسيّ المتوازن إسقاطًا لكلام وزير الخارجية الأميركية جون كيري، وهو نفسه ما سينساب على أرض اليمن في مراحل من هذا الصراع، لأنّ الأميركيين قرأوا باستراتيجيتهم بأن التسرّع السعوديّ خال من الصفاء والتأمّل وسيفرض تناميًا واضحًا للقوى التكفيريّة حيث يستثمر بوضوح في حربها على معظم المكونات.

لقد فهم الرئيس المصريّ عبد الفتّاح السيسيّ عمق الصراع في المنطقة الموجّه سعوديًّا على الرغم من اصطفافه إلى جانبها في الحرب على الحوثيين في اليمن. فقد رشحت معلومة باتت شبه مؤكّدة من خلف كواليس القمّة في شرم الشيخ، بأنّ وزير الخارجيّة السعوديّ سعود الفيصل، وفي أثناء التحضيرات للقمّة تمنى على الرئيس المصريّ حضور وفد الائتلاف السوريّ المعارض القمّة، فعارض السيسي حضورهم ليس منعًا للإحراج، ولكن لأنّ السيسي لا يزال يعترف بشرعية الجيش السوريّ في مواجهته للتنظيمات التكفيريّة، وحين حضر الوفد السعوديّ إلى شرم الشيخ، وقبل دقائق من انعقاد القمة عاد سعود الفيصل وطلب من السيسي مشاركة وفد الائتلاف ولو بصفة مراقب وهم باتوا نزلاء الفندق، ليواجه الوزير برفض الرئيس حضورهم حتّى بصفة مراقب. أوساط مراقبة واكبت أعمال القمّة، وقرأت تلك المعلومة بعمق كبير تساءلت عن سرّ مشاركة مصر الحرب على الحوثيين في اليمن، واستذكرت أن المشاركة لا تملك خصوصيّة متماهيّة مع الإرادة السعوديّة، أو تحوي تسليما كاملاً بها، بل تضع رجلها في اليمن لإدراكها أنّ هدف الحرب الاستيلاء على باب المندب، والباب هذا بعمقه الاستراتيجيّ منفذه إلى مصر أي قناة السويس ومنها المتوسّط.

بعض المراقبين لا يرون تحالفًا مصريًّا-سعوديًّا، بل يرون تباعدًا وشيكًا، له أسبابه التاريخيّة منذ أيام عهد الرئيس جمال عبد النّاصر، المتعاطف تاريخيًّا مع اليمن بفقره، أولى تداعياته خلال التحضير للقمّة العربيّة، برفض السيسي حضور وفد الائتلاف السوريّ. ويجيء ذلك من إدراك مصريّ بأن تنظيم "داعش" ومعظم التنظيمات التكفيريّة الوهابيّة من منتوج سعوديّ واحد. يكشف عن هذا اليقين لقاء حصل بين الرئيس عبد الفتّاح السيسي وشيخ الأزهر في مصر الدكتور أحمد الطيّب وفيه طلب الرئيس المصريّ من الشيخ إجراء بعض التعديلات في الفقه الإسلاميّ انطلاقًا من قراءة وازنة للنصّ القرآنيّ، والارتكاز على فقه جديد تتمّ فيها محاربة القوى التكفيريّة، فيعبّر الفحوى الإسلاميّ بدوره عن رؤى حداثويّة وتطويريّة للإسلام في مقاربته للحياة البشريّة، فأجابه شيخ الأزهر أنا معك ولكن ماذا نفعل بالسعوديّة، وبحسب الرواة، لم يهضم الرئيس المصريّ محتوى الكلام المقال، فانتفض وقال للشيخ الدكتور الطيب: "لن أنتظر اجتياح الفكر الوهابّي مصر وتدمير حضارة عمرها أكثر من ألفي سنة، ولن أسمح بأن يحصل لمصر ما حصل للعراق، هل يمكن تخيل تدمير الأهرام، أو أبو الهول من قبل هؤلاء"؟

تشي الرؤية وبهذا السياق باحتدام مصري واضح تجاه السعوديّة في سوريا واليمن والعراق، وإن بدا خفيًّا وغير معلن. وهي التي بدورها عوّمت الإخوان المسلمين وأوصلتهم مع الرئيس السابق محمد مرسي إلى الحكم قبل أن تنفض يديها منه بسبب شدّ حبال بينها وبين الأتراك. ومشاركتها في الحرب ليس لإرضاء السعوديّين ولكن لسبب خاصّ بها، والمصريون مع الرئيس السيسي ووزير الخارجيّة في أدبياتهم كانوا أوّل من رحبوا بالاتفاق النوويّ مع إيران، وفي المحورين السوريّ واليمني برز المصريون في نقاشاتهم دعاة للحلّ السياسيّ وليس الحل العسكريّ، ولم يظهر حتّى الآن أي دور فعليّ على الرغم من معلومة تم نشرها لم تتضح صحتها بعد بأنّ السيسي يحاول التنسيق مع السعوديين لحرب بريّة في اليمن بوجه الحوثيين، وقد دحض بعض العارفين بصحة تلك المعلومة ليقينهم بأنّ حراك المصريين مع السعوديين سيحدث فجوات في البنية المصريّة على مستويات عديدة.

وتبقى كلمة الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله، وقد حيّد مصر عن جمر العبارات وقساوة المفردات. فهي واضحة لا تحتمل التأويل في جوهرها، فهو حواريّ على المستوى الداخليّ وأكّد الإصرار عليه غير مرّة. واستغربت بعض الأوساط وصفه بالحاقد، متسائلة أليست التصرفات الداعشيّة عبثيّة؟ وتدعو بعض الأوساط النائب سعد الحريري للاطّلاع على بعض الإحصائيّات التي تظهر تململ النخبة السعوديّة السنيّة في الرياض وجدّة من بعض سلوكيات الأسرة الحاكمة والداعمة في الأساس للحراك التكفيريّ في سوريا والعراق، ويتبيّن من فحوى الكلام أن التململ ليس مذهبيًّا بل بدوره بنيويّ، وهذا ما يلمسه على وجه التحديد الرئيس المصري الذي التقاه الحريري أخيرًا وأظهر بيانه المكتوب مرونة تجاه إيران.

اليمن لن يعود قويًّا إلا بحل سياسيّ وليس باستعماله ساحة لمحاربة اتفاق بدأ يظهر شيئًا فشيئًا، والحل السياسيّ المتوازن قائم على شراكة ما بين كل الأطراف تضاف إليها مسألة التنمية المستدامة التي ترفع عن اليمن ثقل الفاقة وجرح الفقر وآفة الجهل، واليمنيون أبناء حضارة عريقة لها إسهاماتها في التاريخ.