عندما عزم رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب ​وليد جنبلاط​ على ترشيح نجله تيمور مبكراً الى الانتخابات النيابية، صفّق التقدميون الاشتراكيون لخيار "البيك". هم يدركون ان رئيس حزبهم ينتمي الى عائلة سياسية تمضي بالتوريث اباً عن جد. عندما لوّح رئيس تيار المردة النائب ​سليمان فرنجية​ بترشيح نجله طوني للانتخابات النيابية، أيضاً بارك "المردة" طرح "البيك". هم يعرفون ان عائلة فرنجية هي التي استولدت خيارهم السياسي "المارد". عندما تقدم النائب ​سامي الجميل​ صفوف الكتائبيين بسرعة متجاوزاً "الرفاق العتاق"، لم يستطع من يعارض كتائبياً خيار التوريث فرض اي معادلة مغايرة. أساساً يدرك الكتائبيون ان حزبهم نما على أساس التوريث في القيادة. الرئيس المؤسس الراحل بيار الجميل حضّر نجليه بشير وأمين، ثم جهّز امين لاحقاً نجله الوزير بيار الجميل لتسلم القيادة الكتائبية لكنه استشهد، في وقت كان شقيقه سامي "متطرفاً" في خياراته السياسية خلال دراسته الجامعية، لكن شهادة بيار دفعت سامي الى الواجهة الكتائبية مع "روتوش" في التصرفات والمواقف فرضها النضج والواقعية السياسية والإحساس بالمسؤولية، اما نجل بشير النائب نديم الجميل فلا يمكن مقارنته عملياً بمهارة سامي لكن الحسابات العائلية فرضت نجل بشير وريثاً لابيه.

لا يقتصر التوريث السياسي عند "البيك" و"الشيخ" في أحزاب "الكتائب" و"المردة" و"التقدمي الاشتراكي". قبلهم مثلاً مضى "الأفندي" في خط الوراثة عند آل كرامي. فتولى الوزير السابق فيصل كرامي القيادة قبل رحيل والده رئيس الحكومة الأسبق عمر كرامي. جميعها تجارب ناجحة لا يمكن الانتقاص منها طالما يرضى بها الحزبيون وتحددها لاحقاً صناديق الاقتراع. تلك الاحزاب والعائلات ثبتت فاعليتها السياسية، بينما سقطت تجارب أخرى. المعيار اذاً ليس الوراثة بقدر الكفاءة والممارسة السياسية على مقياس خدمة الناس والثقة والإحساس بالمسؤولية، والدليل هنا عنصران: الفارق في الأداء والريادة كما هي الحال بين سامي الجميل وابن عمه نديم، وسقوط "بيكوات" كآل الأسعد مثلاً الى غير رجعة. ممارساتهم ساهمت بنهايتهم السياسية. أُسقطوا شعبياً ولم تفلح كل المحاولات بإحياء "البيت الاسعدي" أو ما يشبهه. لا مجال للمقارنة اساساً بين عائلات سياسية بنت أحزاباً عقائدية وبين عائلات سياسية اقطاعية حاربت الفكر السياسي وحرمت الشعب من المشاركة بالقرار ولو بالشكل.

امام هذا الواقع يصبح التوريث السياسي على اساس الكفاءة والحزبية ليس عيباً. طالما اثبت سامي الجميل قدرته فلِمَ يُمنع عنه حق الترشح لرئاسة "الكتائب"؟ وحدهم الكتائبيون يقررون. واذا اثبت ​تيمور جنبلاط​ كفاءته فلم لا يكون زعيماً حزبياً او درزياً طالما المناصرون راضون به كما ارتضوا يوماً بوالده. أما وقد بدأ ​طوني فرنجية​ بسلوك طريقه السياسي بهدوء ومن دون ضجيج برضى "المردة"، فما المانع ان يكون نائباً وزعيماً في المرحلة المقبلة؟ لقد ثبّت فيصل كرامي نفسه وقبله فعل والده وآخرون.

ان ضعف القدرة في القيادة الحزبية تسقط الوريث كما يبدو الحال مع عميد "الكتلة الوطنية" كارلوس اده او مع رئيس "الوطنيين الاحرار" النائب دوري شمعون. التوصيف هنا يستند الى المقارنة بين ريمون وكارلوس اده او بين الرئيس الراحل كميل شمعون ونجله دوري. فلنستحضر تمثيل "الكتلة" او "الاحرار" في عهد المؤسسين بالمقارنة مع وضعهما اليوم.

بالمقابل كيف كان وضع المحازبين لفرنجية الجد مقارنة مع وضع "المردة" اليوم؟ الم يوسّع ويمأسس فرنجية الحفيد تياره الآن؟ كيف كانت تجربة "الكتائب"؟ ألم تفشل كل المحاولات لإبعاد الحزب عن العائلة؟ جرى انتخاب قيادة حزبية بعيداً عن آل الجميل، لم تستطع الصمود طويلاً.

لكن ما هو سر الاندفاع نحو التوريث المستعجل في لبنان الآن؟ لا تبدو الحقيقة واضحة ولا المواقف صريحة. قد يكون السبب هو رغبة القيادات المعنية الاطمئنان الى التوريث بحضورهم ورعايتهم لضمان انتقال الزعامة الى أبنائهم، نتيجة تغير المعايير وتبدل المعادلات السياسية في لبنان والمنطقة والعالم.

الامر المؤكد ان جيلاً شاباً جديداً بدأ يطرق باب الحياة السياسية. لا مشكلة ان كان وصولهم بالتوريث الكفوء او بالتراتبية الحزبية التي هي الأفضل لأنها تتيح المنافسة الديمقراطية وتغني الحياة الحزبية بضخ كفاءات تتسابق للوصول الى الريادة. انه عصر جديد يجري فيه التدقيق حول النظام السياسي الذي سيعتمد بعدما سقطت أنظمة إقليمية. كيف سيكون؟ ام يورّث هو ايضاً مع علاّته؟ هل يرتقي الشباب الوارثون والطامحون يوما الى مرحلة الغاء الطائفية السياسية؟ تلك هي المقاييس الحقيقية لبناء الوطن. هنا التحدي لبناء دولة مدنية تستند الى ان لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه.