اشارت صيحفة "الراية" القطرية الى انه "في السبعينيات من القرن الماضي، كان الجنوب اللبناني في مهبّ العواصف؛ لأنه كان أرض الصراع والمُناوشات العسكريّة بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين"، لافتةً الى ان "رئيس الحكومة الراحل تقي الدين الصلح قال يوما "إذا كان الجنوب مصدر خطر وقلق على لبنان، فينبغي ألاّ ننسى أن جهاته الجغرافية الأخرى ليست مبعث اطمئنان، هناك في الشرق والشمال سوريا. طبعا سوريا غير إسرائيل، ولكنها جارٌ غير مريح للبنان. ولبنان لن يرتاح إلا إذا نشأ فيها، وكذلك في العراق، حكم مدني ديمقراطي يجعل رقي الإنسان والأوطان هدفه الأسمى. وما لم تتجه دول المشرق العربي هذا الاتجاه، فإن لبنان لن يعرف الراحة أبدا".

ونوهت "الراية" الى ان "الصلح رأى أن هذه الأنظمة المحيطة تنظر إلى لبنان على أنه لقمة سائغة يجب أن تُؤكل، أو بقرة حلوب تدّر اللبن والعسل. أما أن لبنان عبارة عن تجربة حضارية وديمقراطية جديرة بالاحترام وبالاقتداء، فأمر لا يجول في أذهان العسكريين الذين استولوا عنوةً واقتدارا على الحكم في بلدانهم، لأن هدفهم ليس رقي بلدانهم وتقدمها، بل البقاء في السلطة إلى الأبد".

واوضحت "الراية" أن "هؤلاء الحكام لأنهم عسكر في السلطة فقد تمكّنوا من بسط، سيطرتهم على البلد الجار الضعيف عسكريا وسياسيا في أكثر حقبه المعاصرة، وبخاصةٍ في السنوات الخمسين الأخيرة، فتحوّل لبنان عمليا إلى مستعمرة أو محمية، وفقد استقلاله وإرادته السياسية والوطنية"، معتبرةً انه "لا شكّ أنه يعود لدماء رفيق الحريري فضل تخليص لبنان من قبضة النظام السوري، ولو إلى حدّ ما، لأنه بقي لهذا النظام أنصار أقوياء فيه يتمثلون بـ"حزب الله" أساسا. وهذا يعني أن لبنان لم يتحرّر حتى الساعة من أوزار تلك العلاقة التاريخية والجغرافية التي طالما انعكست سلبا عليه".

وذكرت "الراية" ان "الأنظمة السورية المتعاقبة، وبخاصة نظام حافظ الأسد وابنه، لم تتعامل مع لبنان على أنه الابن السويّ لفكر وحلم عصر النهضة العربية، وإنما تعاملت معه ككرم على درب، فقطفت من هذا الكرم وسرقت ونهبت دون أن تبشم ودون أن تفنى العناقيد على حد تعبير المتنبي. وعلينا أن ننتبه إلى أن الكرم مازال سائبا إلى اليوم، وأن أعباء العلاقة اللبنانية مع سوريا لم تضع أوزارها بعدُ، فلا أقلّ من مليوني لاجئ سوري قد لجأوا إليه. وفي توقعات المراقبين للحرب السورية أن على اللبنانيين أن ينتظروا تدفق أفواج أخرى من هؤلاء اللاجئين يتمثلون هذه المرة بأبناء الطائفة العلوية في الساحل السوري. فإذا اشتدّ ضغط "داعش" والنصرة عليهم، فإلى أين يذهبون؟".

وأضافت: "لم تنشأ في سوريا ولا في العراق تلك الدولة الديمقراطية الحديثة التي حلم تقي الدين الصلح بها، والتي يشكل نشوؤها بداية راحة واستقرار وانفراج للبنان، وإنما استمرّت سوريا بلدا مخطوفا من زمرة عسكرية فاسدة أوصلت بلدها إلى الجحيم الذي تحيا فيه اليوم، وقد توصل جارها الضعيف إلى جحيم آخر لا يقلّ هولاً ورعبً عن جحيمها. والواقع أن لبنان، في حاضره اليوم، بلد يترنّح وقابل للانهيار في كل لحظة، وما ذاك إلا بسبب جيرته للجحيم السوري وبسبب ما تركه هذا الجحيم فيه من أنصار وأعوان".

ورات "الراية" انه "لا شكّ أن لبنان سيظلّ يترنح وينزف طالما أن سوريا عاجزة عن الخروج من تجربتها المرّة، وإذا ما طرح لبنان على نفسه سؤالاً حول المصير الذي ستؤول إليه سوريا في القريب وفي البعيد ليعرف على ضوئه إلى أين ستقوده الأقدار، لم يجد جوابًا يسرّ خاطره، فالسؤال عن سوريا إلى أين، إذا طُرح الآن على زرقاء اليمامة التي قيل إنها كانت ترى على بعد مئات الكيلو مترات، لن يكون إلا نحو "داعش"، فمن "داعش" إلى أخرى، ومن "داعش" إلى داحس والغبراء وسائر القبائل والعشائر والأفخاذ حتى منتهى الدهر أو نحوه"، مؤكدةً ان "حلم تقي الدين الصلح بانبثاق سوريا أخرى تحترم حقوق الإنسان وتأخذ بالديمقراطية والحداثة وتنظر إلى لبنان نظرة كريمة وتحتضنه وتفخر به وتقتدي، فأمر من رابع المستحيلات."، مشيرةً الى ان "حافظ الأسد عاد بسوريا سنوات غير قابلة للعدّ إلى الوراء، سجنها كلّها في سجن تدمر وفي سائر سجونه. قضى قضاءً تاما على نسل السياسة والسياسيين كما قضى على كل الشعارات القومية التي اشتهرت سوريا بتردادها والعمل من أجلها ما عدا شعارا واحدا هو "حافظ الأسد رئيسنا إلى الأبد"، لافتةً الى انه "وعندما ثار الشعب السوري على جلاّده، كان من الطبيعي أن يبحث عن قائد لثورته، وأمضى أشهرًا بل سنوات وهو يبحث عبثا عن هذا القائد إلى أن اقتنع بأن آل الأسد اجتثوا كل السياسيين، قَتلوا من قتلوا منهم وهجّروا الباقين خارج سوريا. وعندما التفت هذا الشعب إلى المهاجرين والمنفيين لكي يمنحهم أو يمنح أحدهم عباءة الزعامة، لم يجد هناك سوى جماعة من المثقفين والأدباء والكتّاب الذين إذا اجتمعوا اختلفوا على كل شيء".

وتساءلت "أي مصير أو حلم يمكن أن يتوقعه المرء لسوريا وسوريا إلى أجل غير معلوم في قبضة الروس والإيرانيين والأميركيين والإسرائيليين، من جهة، وفي قبضة "داعش" وسائر التنظيمات المسلحة التي تزداد وتتناسل يوما بعد يوم؟".

واعتبرت "الراية" انه "لعل أكثر التوقّعات واقعية حول سوريا هو توزعها على ميليشياتها واتفاق هذه الميليشيات على حدودها فيما بينها. وتُجمع هذه التوقعات على أن أول الدويلات التي ستقوم هي دويلة العلويين في الساحل السوري التي كانت في عداد الدويلات المذهبية التي أنشأها الفرنسيون في سوريا عقب استعمارهم لها عام ثم زالت كلها فيما بعد لعدم قابليتها للحياة. طبعا من المشكوك فيه اليوم أيضا أن تقبل هذه الدويلة الحياة في الوقت الراهن لأنها تحمل في ذاتها عوامل انحلالها. ذلك أن أكثر "العصبية" في هذه الدويلة أو لهذه الدويلة، عصبية غير متينة. مدينة اللاذقية على سبيل المثال، وهي عاصمتها المفترضة، هي من مدن الثغور الإسلامية منذ بداية العصور"، متسائلةً "كيف تكون عاصمة دويلة علوية؟"، مضيفةً: "أما القرداحة أو أي قرداحة أخرى، فمجرد قرية قد لا يكون فيها مركز بريد وغرفة هاتف للعموم، فلا تصلح، والحالة هذه إلا لتكون مركزً لحسينية أو لحوزة دينية"، معتبرةً ان "عدم نجاح السوريين في تأسيس دولة حديثة في بلادهم كان له أثره في انتكاسة الدولة الحديثة في لبنان وعدم تطوّرها التطوّر المنشود".

ورأت "الراية" انه "لو أن سوريا كانت محكومة منذ استقلالها عام من نُخَب معاصرة ذات توجّه علمي وعقلاني، لكانت اليوم غير سوريا/ الجحيم الذي نشاهده ولكان لبنان بلدا أوروبيا بالمعنى الكامل للكلمة، أي بلدًا مشدودًا إلى المستقبل والحداثة. ولكن بسبب سيطرة الغوغاء والارتجال والمذهبية والعسكر على مقادير سوريا، لم يتمكن لبنان من متابعة سيره، بل أعاقته معوقات كثيرة قادته من وراء حدوده الشمالية والشرقية"، معتبرةً انه "وبدون وضع حدّ للجحيم السوري، وهذا من رابع المستحيلات، فإن لبنان لن يستطيع النجاة بجلده وبالتالي متابعة تجربة النماء والتطوّر، بسبب استحالة فصل المصير اللبناني عن المصير السوري. أما توقّعات تقي الدين الصلح فلها ما يبررها بالطبع، ولكنها مؤجّلة إلى أمد غير منظور".