إنّ الذين يرسمون معالم الاستراتيجيات السياسية ينظرون منذ عقود إلى جغرافيات العالم على أنّها رقعات شطرنج، تخضع لخطط وتحرّكات اللاعبين الدوليين. وما الشرق الأوسط اليوم سوى الرقعة الأكثر خضوعاً لآليات اللعب الأممي، والأكثر تدافعاً وتغالباً وأهميّةً في إرساء خرائط جيوسياسية جديدة وفق مبدأي التفكيك والتركيب. فمَنْ يقرأ نظرية (بريجنسكي) في كتابيه "رقعة الشطرنج" و"خطة اللعب" يفهم ما يجري اليوم في المنطقة والعالم، وكذلك "أحجار على رقعة الشطرنج" للاستراتيجي الكندي (وليام غاي كار) مما يكشف لنا الآليات والتقنيات المتّبعة في الرقعة الشطرنجية للشرق الأوسط. لكن أعتقد أنّ لعبة البيادق والقلاع والملوك في منطقتنا ستكون أكثر مأساويةً ودراماتيكيةً قياساً لفكرة (كاربوف كاسباروف) حول "الحرب على رقعة الشطرنج"، التي تنتهي بتعادل اللاعبَين.

بناءً على هذه المقدّمة سنحلّل مجريات الأحداث في الشرق الأوسط عموماً، ونفهم سلوك ودور "وليد جنبلاط" خصوصاً، حيث بذل جهداً خطيراً ومكشوفاً في الآونة الأخيرة نتيجة شعوره بأنّه سيخرج من رقعة الشطرنج الشرق أوسطية، بسبب تدافع وتسارع الحراك الدولي فيها، واحتدام التغالب بين اللاعبين الدوليين. فالتقسيم في رقعة الشطرنج الإقليمية يحتاج إلى ثلاثة عناصر: ديموغرافية واقتصادية وعسكرية، وهي عناصر تكاملية ترابطية واعتمادية تشكّل النسق الأساسي لكل عملية تقسيم. بالنسبة إلى العنصر الديموغرافي فقد تولّته التنظيمات التكفيرية التي تتمتّع بقوة عسكرية وسيطرة على مناطق هامة من الطاقة الاقتصادية، حيث تبنّت مشروعاً تصفوياً للأقليات الأصيلة في الشرق (العراق، سوريا، لبنان). فنجحت بتصفية الوجود المسيحي والآيزدي في العراق، لكنّها فشلت في إلغاء الديموغرافيا المسيحية الأصيلة في سوريا، فارتفع تمثال "السيدة العذراء" في "معلولا" ليفرض واقعاً ممانعاً لخطة التقسيم، ويربط هذه البقعة السورية بالقلعة اللبنانية التي تحمي مكوّناتها التعدّدية وقوّتها الاقتدارية: الجيش، الشعب، المقاومة. لكنْ ليس المجال هنا لبحث المكوّنين المسيحي والشيعي، وتقاربهما الوجودي الذي غيّر المعادلات المزمع فرضها على المنطقة.

لنعُد الآن إلى الملفّ الدرزي، ولكنْ قبلاً لا بدّ من استعراض المشهد الكردي، حيث يتّخذه "جنبلاط" نموذجاً لمشروعه الذي يحدّد دوره ويشرح سلوكه الأخير. إذا نظرنا إلى التحرّكات الميدانية للأكراد بالتزامن مع حراكهم السياسي، سنلاحظ بدء تشكّل الدولة الكردية: "كردستان الكبرى". فقد حقّق الكُرد إنجازات جغرافية هائلة بدعم غربي كبير وسريع، فاستعادوا مئات القرى التي احتلّها تنظيم داعش، وفرضوا سيطرة عسكرية من عين العرب إلى الرقّة. هذا الإنجاز الميداني رافقه إنجاز سياسي بدخول الأكراد إلى البرلمان التركي بشكل لافت وملحوظ، مما يمهّد للبدء بحراك سياسي مطلبي تحرّري، خاصة وأنّ رئيس إقليم كردستان ذهب مؤخّراً في زيارة للرئيس الأميركي "باراك أوباما" حاملاً معه مشروع "الدولة الكردية". وبالفعل بدأ مشروع "جو بايدن" يظهر بقوة، خاصة في المراكز البحثية المتعاونة مع إسرائيل كمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى ومؤسسة الدفاع عن الديموقراطية. وهكذا اكتمل التواجد الكردي –ديموغرافياً وسياسياً واقتصادياً– بين إيران وتركيا والعراق وسوريا، الأمر الذي يكرّس مقوّمات بناء "كردستان الكبرى" الحليفة لإسرائيل. فقد استقبل "البرزاني" منذ أسابيع وفداً إعلامياً من القناة الثانية الإسرائيلية، ومنحها مقابلة تطمينية حول صداقة الأكراد لإسرائيل، وكان قد عبّر سابقاً للأميركيين والإسرائيليين عن تأييده لدولة إسرائيل وضرورة وجود علاقات طبيعية بين الكيان الإسرائيلي وكردستان الكبرى، على قاعدة "دولة مقابل دولة".

جنبلاط يحتذي النموذج الكردي، وذلك بسعيه إلى إقامة دولة درزية على غرار الدولة الكردية، حيث نلاحظ تطابقاً واضحاً في حركة ودور مشروعَي الدولتين الكردية والدرزية. وهذا ما يفسّر مواقفه المتشدّدة من الرئيس السوري "بشار الأسد"، ورغبته العارمة بإسقاط النظام السوري الشرعي، وكذلك مواقفه المتسامحة لا بل المتعاونة مع جبهة النصرة، ومن خلفها السعودية. ولأنّ مواقف الدروز في سوريا ولبنان مواقف وطنية وعروبية مشرّفة -سواء على مستوى الطائفة الدرزية أو على مستوى شيوخها والعديد من قادتها- نجدها تتعرّض إلى ضغط أربع جهات: الجهة الأميركية الخليجية عبر إغراء الدروز بمفاهيم الحرية والاستقلال والحكم الذاتي، الجهة الإسرائيلية عبر خداعهم بتأمين حمايتهم وأمنهم الوجودي خاصة دروز الجولان المحتل وربطهم بالدروز الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، الجهة التكفيرية التي تضغط على الدروز بتكفيرهم وتهديد وجودهم وقتلهم، والجهة الجنبلاطية التي تسعى إلى مصادرة قرار الدروز الشرفاء وكيّ وعيهم الجماعي وإخراجهم من محور الممانعة الأصيلة.

نلاحظ أنّ الجهات الأربعة تسعى إلى تحقيق هدف واحد ومشترك، فصل الدروز عن الجغرافيا السورية واللبنانية وربطها بدروز الجولان المحتل ودروز إسرائيل، مما يمهّد لنشوء دولة درزية على غرار الدولة الكردية، أي حليفة لإسرائيل. ومع أنّنا نستبعد ذلك على دروز لبنان وسوريا الذين قاوموا الظلم والاستعمار -منذ مناهضتهم للعثمانيين، ثمّ انضمامهم إلى النضال مع آباء الاستقلال ضد الانتداب الفرنسي، ثمّ مقاومتهم للاحتلال الإسرائيلي للبنان- إلّا أنّ ما يجري اليوم هو محاولات حثيثة لتغريب الدروز عن أصالتهم الوطنية والعربية وتوظيفهم في المشروع الأميركو-سرائيلي المتمثّل بالتقسيم. وذلك يتجلّى واضحاً في جهد الجهات الأربعة السابقة لاستهداف الطائفة الدرزية وفق المخطّط التالي: جبهة النصرة ترتكب المجازر بحق الدروز لكي يشعروا أنّ دولتهم السورية عاجزة عن حمايتهم، مقابل قدرة ورغبة إسرائيل في حمايتهم من الإرهاب التكفيري. عندئذٍ تأتي إسرائيل لتربط دروز الجولان بدروز السويداء ثم بالجليل وجبل لبنان عبر الشوف، وفق معادلة حماية دروز سوريا ولبنان من قبل الدروز الحاملين للجنسية الإسرائيلية والذين يخدم الكثير منهم في الجيش الإسرائيلي. يترافق ذلك مع تقديم ضمانات إغرائية أميركية خليجية للدروز بأنّ حمايتهم ووجودهم سيتحقّق بقيام كيانهم المستقل، وبذلك تتشكّل العناصر الديموغرافية للدولة الدرزية التي ستكون حزاماً أمنياً للكيان الإسرائيلي.

هذه الخطة يتولّى "جنبلاط" اليوم تيسيرها وتسهيلها، من خلال اعتباره مجزرة السويداء حادثاً فردياً، ثمّ الدعوة إلى إخلاء إدلب من الدروز، ومنح منازل المسيحيين في الشوف لدروز سوريا، ثمّ الإيعاز لدروز البقاع الغربي بالاتصال مع دروز سوريا. لذلك يمارس جنبلاط الترهيب على مَنْ يؤيّد النظام السوري من الدروز، فاشترك مع جبهة النصرة في هدر دم كلّ درزي يؤيّد النظام السوري، ومقياس هدر دمّ الدرزي عند جنبلاط وجبهة النصرة واحد: هو تأييد دروز السويداء للنظام السوري. في الحقيقة جنبلاط هو بيدق في رقعة الشطرنج الإقليمية، والبيدق حجر ضعيف في اللعبة، إذا تقدّم إلى الأمام لا يمكنه أنْ يرجع إلى الوراء، ودائماً تسقط البيادق في لعبة الشطرنج لحماية أحجار الملك والوزير والقلاع. لكن ما يميّز جنبلاط في اللعبة أنّه بيدق الدم في شطرنج التقسيم، لذلك سيسقط على الرقعة الدامية. فالتقسيم الذي يلوح في الأفق سيُغرق المنطقة بالدماء، وسوف يطال دول الخليج، حيث تسقط كل البيادق أمام حجر الملك (إسرائيل). وحده محور المقاومة والمسيحيون الأصلاء والدروز الشرفاء - يا "جنبلاط" - سيقولون للعالم: "كشّ ملك".

* مؤسّس علم الأنتروستراتيجيا الدولية