خلال الأيام القليلة الماضية، كان الكثير من اللبنانيين منهمكين بـ"التنمير" على انتخابات حزب "الكتائب" التي وصفوها بـ"المعلّبة"، باعتبار أنّ رئاسة النائب سامي الجميل للحزب السبعيني كانت محسومة منذ سنواتٍ، وأنّ الانتخابات التي حصلت كانت مجرّد "تمثيلية" الهدف منها إخراج "السيناريو" إلى الضوء.

ولكنّ المفارقة كانت أنّ بين هؤلاء الساخرين "محازبون" لم يتنبّهوا إلى أنّ "الديمقراطية"، ولو الشكليّة منها، غائبة عن أحزابهم منذ فترة ليست ببسيطة، أحزابٌ لم يتغيّر رؤساؤها منذ سنواتٍ طويلة، بل إنّها عاجزة عن إجراء استحقاقاتها المؤجّلة، بسبب غياب التوافق، والخشية من انعكاسها سلباً على أداء الحزب.

"التيار الوطني الحر" واحدٌ من هذه الأحزاب. انتخاباته أجِّلت غير مرّة، من دون أسباب جوهريّة واضحة ومقنعة، سوى ما اعتبرت مصادر كانت تأمل أن تحصل الانتخابات في وقتها أنه "تلبية طلبات "المتضرّرين" ممن عيّنوا في السنوات الماضية، ورجّحت الاستطلاعات خسارتهم كون لا حيثية شعبية فاعلة يتمتعون بها، فلجأوا للترويج لسيناريوهات توحي بـ"فوضى" آتية إلى صفوف التيار".

هذا في الظاهر، ولكنّ "بيت القصيد"، كما تقول مصادر مطلعة، يكمن في مكان آخر تمامًا، وتحديداً في النظام الداخلي لـ"التيار"، والذي كانت تُدار حوله معارك طاحنة بالجملة، في السرّ والعَلَن، وذلك نظراً لدوره الأساسي في صياغة موازين القوى داخل "التيار"، وخصوصًا في ما يتعلق بالمجلس السياسي للتيار، في ظلّ الانقسام إلى معسكرين، معسكر يصرّ على أنّ هذا المجلس يجب أن يكون له دور سياسي كبير، وأن يكون منتخباً بشكلٍ أساسي، ومعسكرٍ آخر يقوده وزير الخارجية ​جبران باسيل​، ويفضّل أن يكون هذا المجلس معيّناً من جانب رئيس التيّار، معللاً ذلك بضرورة أن يكون الفريق "المقرّر" داخل "التيار" متجانساً ومنسجمًا.

تكشف هذه المصادر عن مؤشراتٍ توحي بـ"انتصار" المعسكر الثاني خلال الساعات الماضية، ذلك أنّ النظام الداخلي الذي سُحِب من وزارة الداخلية مؤخراً تمّ تعديله عملياً بما تشتهيه سفن هذا الفريق، وأعيد إرساله لوزارة الداخلية على هذا الأساس. وتوضح أنّ التعديلات شملت بشكل أساسي دور المجلس السياسي وكيفية انتخابه بحيث "تحوّل من مجلس سياسي إلى لجنة سياسية" على حدّ تعبير المصادر، علمًا أنّ المجلس السياسي كما ينصّ النظام يُعتبَر السلطة السياسية في التيّار يرأسه رئيس التيّار وتنبثق عنه هيئة لمتابعة شؤون القطاعين التنفيذي والتشريعي، وهو الذي يرسم السياسة الوطنية العامة للتيار وينفذها بعد إقرارها من قبل المجلس الوطني، الذي يعتبر الهيئة التمثيلية للملتزمين في التيار.

بحسب النظام القديم، يتألف هذا المجلس من الرئيس، نائبي الرئيس، النواب الحزبيين، الوزراء الحزبيين، ثلاثة أعضاء يعينهم الرئيس، تسعة أعضاء ينتخبهم المجلس الوطني من خارج أعضائه، مقرر يتمّ تعيينه من الرئيس. أما النظام الجديد، فقد قلب المعادلة رأساً على عقب، بحيث أصبح تسعة من أعضاء المجلس السياسي معيّنين من قبل الرئيس مباشرة، فيما ينتخب المجلس الوطني ثلاثة آخرين.

أكثر من ذلك، تتحدّث المصادر عن تحويل العديد من صلاحيات هذا المجلس إلى الرئيس مباشرة، الأمر الذي يقلص من الدور التقريري للمجلس، ويجعله دوراً تنفيذياً بالدرجة الأولى، ويمنح الرئيس في المقابل ما يمكن وصفه بـ"الصلاحيات المَلكيّة"، التي تجعله الحاكم بأمره. وتسأل المصادر عن جدوى هذه التعديلات في هذا التوقيت، علماً أنّ رئيس "التيار" العماد ميشال عون كان قد وعد في وقتٍ سابق بأن لا يحصل أيّ تعديل إلا بعد سنة ووفقاً لأحكام النظام، الذي يشير إلى أنّ إقرار التعديلات يتمّ بأكثرية ثلثي أصوات المجلس الوطني.

عمومًا، تعتقد المصادر أنّ تعديل النظام الداخلي سيكون ممهّدًا لإجراء الانتخابات المؤجّلة في "التيار" يرجّح أن يكون موعدها في شهر أيلول المقبل، وتؤكد أنّ الجميع، سواء من المؤيدين للتعديلات أو المعارضين لها، سيشاركون فيها، بل إنّ الفريق المعارض سيعتبرها بمثابة "معركة وجودية" سيسعى من خلالها لإثبات حجمه ووزنه التمثيلي لدى القاعدة الشعبية بشكلٍ أو بآخر.

وفقاً للنظام الداخلي في "التيار"، فإنه حزب سياسي ديمقراطي، كما أنّه امتدادٌ للحالة اللبنانية التي نشأت مع نضال العماد ميشال ميشال عون، يجهد لتجديد الحياة السياسية في لبنان، يلتزم العمل تحت عنوان التغيير والإصلاح. ولعلّ المعركة الداخلية التي يخوضها "التيار" اليوم تكون "مصيرية"، فالديمقراطية والتغيير والإصلاح كلّها توضَع اليوم على المحكّ، فهل تكون على قياس "أشخاص معيّنين" كما هو الحال في أغلب الأحزاب اللبنانية السائرة على مبدأ "الإقطاعية"، وكما يحاول أن يصوّرها فريقٌ محدّد من "التيار"، أم تكون على قياس حزبٍ أراد أن يكرّس فعلاً وقولاً حالة مختلفة وفريدة واستثنائية، وأنّ كلّ من يروّج العكس متضرّرٌ لا أكثر ولا أقلّ؟!