لبنان ليس بمنأى عن التحوّلات التي يبشّر بها الغرب في المشرق، وتتضمّن تغيير الخرائط. وفيما تنظر الدول الغربية والفاتيكان إلى المسيحيين المشرقيين كأداة في سبيل تحقيق المصالح السياسية والتقارب بينهما، تتلقّف القيادات المسيحية اللبنانية المشروع الجديد، في لحظة قلق

للمرة الأولى في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، زار بابا الفاتيكان فرانسيس، أول من أمس، كنيسة للبروتستانت «الفالديين» في مدينة تورينو شمال غرب إيطاليا، على الرغم من عدم اعتراف روما بالكنيسة البروتستانتية. وبحسب وكالة «أسوشييتد برس» وإذاعة الفاتيكان، طلب فرانسيس «الصفح» و«السماح» من الفالديين البروتستانت عن «المواقف التي لم تكن تتسم بالروح المسيحية ولا حتى الإنسانية»، في إشارة إلى حملة التصفية التي شنتها الكنيسة الكاثوليكية ضدهم بين القرنين الـ13 والـ19.

تشبه خطوة فرنسيس، بحسب وكالة «رويترز»، الاعتذار الذي قدّمه البابا السابق يوحنا بولس الثاني لليهود خلال زيارته للقدس عام 2000 عمّا سمّاه «اضطهاد الكاثوليك لليهود على مرّ القرون»، لناحية التحوّلات السياسية التي تبعت اعتذار يوحنا بولس الثاني. إذ تدخل خطوة فرانسيس الأخيرة في سياق التحوّلات السياسية التي ينحو الفاتيكان صوبها، وأبرزها التدّخل «المعنوي» لتسوية الأزمة الكوبية ــ الأميركية، والمصالحة مع الكنيسة البروتستانتية. وبحسب مصادر كنسية رفيعة، فإن «الفاتيكان في حركته الأخيرة حول العالم، يشير للدول الأنكلو ــ سكسونية بأن رأس الكنيسة الكاثوليكية ينحو نحو تقارب سياسي عام مع السياسة الأطلسية». وبحسب المصادر، فإن «السياق الطبيعي لهذا التقارب هو محاولة تطويق روسيا، واحتواء أوروبا من عامل الجذب الروسي».

المشرق بدوره ليس معزولاً عن حركة الفاتيكان الجديدة والسعي الأميركي لتعميم نموذج فدرالي في الشرق، خصوصاً في ظلّ تحولات السنوات الماضية وتطوّرات المرحلة الأخيرة في العراق وسوريا ولبنان واليمن. فالحديث عن انفكاك العقد العراقي إلى ثلاثة مراكز قوى، في الشمال والوسط والجنوب، وتبلور كيان «كردي» واضح المعالم يستتبعه قيام كيان «سنّي» في الوسط و« شيعي» في الجنوب، بدفع أميركي واضح، و«التبشير» بانهيار الدولة السورية الحالية لمصلحة صِيَغ ملتبسة عمادها الكيانات المذهبية، يعكس ترتيبات جديدة على وضع المسيحيين المشرقيين، واللبنانيين بشكل خاص.

ويؤكّد أكثر من مصدر في قوى 8 آذار أن عدداً من السياسيين اللبنانيين، بينهم النائب وليد جنبلاط ورئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، سمعوا من سفراء غربيين والملك الأردني عبدالله الثاني، عن قرب سقوط الدولة السورية، وحتمية التغيير في الحدود والنظام السياسي اللبناني. يأتي ذلك بالتوازي مع النشاط الذي يقوم به مبعوثو الفاتيكان إلى لبنان والمنطقة، وآخرهم الموفد البابوي الكاردينال أنجيلو سكولا الذي يرافقه البطريرك بشارة الراعي في زيارة لأربيل بدعوة من بطريرك الكلدان مار لويس روفائيل الأول ساكو.

حديث مستجدّ عن تحوّل ميداني في حمص شكّل دافعاً أساسياً لقلق عون

وما قاله رئيس تكتّل التغيير والإصلاح النائب ميشال عون، قبل أيام، عن احتمال طرحه للفدرالية في لبنان، لا يخرج عمّا يتردّد منذ مدّة في الأوساط المسيحية اللبنانية، الكنسية والسياسية، عن أن «ضمانة بقاء المسيحيين في الشرق هو طرح إطار فدرالي، أو حتى كونفدرالي» بموافقة فاتيكانية و«مرونة» روسية، يقابلها رفض واضح وصريح من بطريرك إنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر يازجي للفدرالية عبّر عنه من البلمند قبل يومين.

وفي ظلّ التزام الخطاب «الرسمي» للتيار الوطني الحرّ بشرح مواقف عون الأخيرة من زاوية الإجحاف الذي لحق بالمسيحيين جراء اتفاق الطائف، وتحكّم تيار المستقبل والقوى السياسية ــ الطائفية الأخرى في حصصها وحصص المسيحيين، وضرورة إنصاف المسيحيين بالبحث عن نظام سياسي جديد عبر مؤتمر تأسيسي، يشرح مقرّبون من عون، من فئة «المنظّرين»، كلام «الجنرال» الأخير بأنه «نابع من اقتناع بأن النظام الفدرالي هو ضمانة المسيحيين في لبنان». ويشير مصدر مقرّب من عون لـ«الأخبار» إلى أنه «لم نعد نقبل باتفاق الطائف، وفي ظلّ تفكّك المنطقة، النظام الفدرالي قد يكون عامل خلاص للأقليات في الشرق».

انتظار تفكّك المنطقة وانهيار الدولة السورية، لا يعنيان سقوط النموذج السياسي للنظام اللبناني فحسب، بل يحتّمان أيضاً تحوّلاً في الحدود والغلاف السوري حول لبنان. ويشير أكثر من مصدر في قوى 8 آذار والكنيسة والتيار الوطني الحرّ، إلى أن «هناك حديثاً مستجدّاً عن تحوّل ميداني في حمص تم تعميمه على أكثر من شخصية سياسية، وهو شكّل دافعاً أساسياً لقلق عون من تطورات المستقبل».

غير أن التحوّلات الميدانية «المفترضة» في حمص، وسقوط المدينة بأيدي الجماعات التكفيرية في سياق انهيار الدولة السورية، سيعكس واقعاً جديداً أيضاً على مراكز القوى المسيحية، بعد إضافة مسيحيي المحافظة ووادي النصارى إلى المجموع المسيحي العام على الشاطئ الشرقي من البحر المتوسط. وتشير المصادر الكنسية إلى «الكباش» الذي يفرضه تنازع النفوذ بين الفاتيكان وروسيا على التوازن «المسيحي» داخل أي صيغة فدرالية جديدة بين الموارنة والأرثوذكس، بعد التعديلات الديموغرافية جراء سقوط الحدود السياسية بين لبنان وسوريا.

ولا يخفي أكثر من مصدر في قوى 8 آذار «الامتعاض» من «تأثير المنظّرين على نظرة عون إلى مستقبل المنطقة». وتشير المصادر إلى أن «كل هذا الكلام لا أُفق له في ظلّ وجود الدولة السورية»، وأن «سقوط حمص ودمشق في أيدي الجماعات التكفيرية لن يبقي شيئاً في المنطقة سوى أنقاض، لا للمسيحيين ولا لغيرهم». ويشير أحد المصادر إلى أن «الدول الغربية لا تملك حلولاً جاهزة، لذلك تطرح مشاريع وتجسّ نبض الشرائح السياسية والطائفية لترى مدى تفاعلها معه»، لافتةً إلى أن «دبلوماسياً أجنبياً استطلع قبل أيام موقف مجموعة من قيادات الدروز في سوريا حول مشروع إدارة ذاتية لمحافظة السويداء، وفوجئ برفض قاطعٍ للفكرة، ما دفعه إلى إبلاغ رؤسائه بجواب الدروز، بعد أن كان يحمل أجواءً مغايرة عن قبولهم للفكرة».

وتشير مصادر بارزة في قوى 8 آذار إلى أن «التهويل بسقوط الدولة السورية يجب ألا يغيّر في اقتناعات السياسيين، خصوصاً أن الكلام عن انهيار الدولة مشابه لما قيل في أواخر عام 2012»، لافتةً إلى أن «المشرقية التي نظّر لها الجنرال عون في السنوات الماضية لا تنسجم مع الفدرالية»، وأن «الدولة السورية وحلف المقاومة عازمان على تحرير كامل الأراضي السورية والحفاظ على وحدة سوريا مهما كلّف الأمر».