لم نكن نرى يوماً أنّ المحادثات حول «الملف النووي الإيراني» يمكن أن تكون في حدود هذا العنوان، ولم تساهم فيها اعتبارات وحسابات أخرى عدة، لأنّ هناك دولاً اشتغلت على هذا العنوان، منها من كان جزءاً من «دورة دولية» يقودها «المجتمع النووي»، ومنها من لم يكن كذلك، ولاحظنا أنّ الدول التي كانت من ضمن تلك «الدورة» حصلت على هذه التقنية واعتبر ذلك إنجازاً، مثال ذلك باكستان، وكيف أنّ دولاً أخرى لم تكن من ضمن هذه «الدورة»، فحوصرت وتمّ الضغط عليها ماديّاً ومعنوياً، الأمر الذي أدّى أخيراً إلى التخلص من ملفها من خلال سيناريوات متعدّدة، ومثال ذلك: العراق وليبيا!

لم يكن «الملف النووي الإيراني» كذلك، فالجمهورية لم تكن من ضمن «الدورة النووية»، كما أنّه لم ينجز معها الضغط والحصار المادي والمعنوي، لكن السؤال الكبير هو: لماذا لم يُنجز معها هذا الضغط وذاك الحصار؟ هل صحيحٌ أنّ الجمهورية الإسلامية تعدّت استراتيجية الحصار عليها من خلال عزل ملفها عن ملفات محيطها الإقليمي؟ وهل صحيح أنّ من تعامل معها لإيجاد سيناريو «اتفاق» من نوع جديد على هذا العنوان لم يضع في حسبانه أو على طاولته اعتبارات الملفات الأخرى التي كانت رئيسية وأساسية على مستوى المنطقة والعالم؟

نعتقد أنّها أسئلة هامة تتمحور حولها مرحلة مقبلة من المراحل التي محكوم على المنطقة وجزء من العالم أن يمرّ منها، أو من خلالها، إذ أنّنا نعتقد أنّ الأمر لا يمكن أن يمرّ في حدود اتفاق بسيط يحاول البعض أن يصوّره في حدّه الضيّق، وإنما سيطاول مستويات عدة في ظلّ مواجهات كبيرة حصلت على مستوى الإقليم، كانت في أجزاء رئيسية منها قد حُسمت لمصلحة «التحالف» بالتالي لمصلحة الجمهورية الإيرانية، في حين بقيت أجزاء أخرى منها عالقة، وليس بمقدور أطراف عدة أن تخرج منها بعيداً عن طاقة ونفوذ الجمهورية الإسلامية، أيّ بعيداً عن طاقة هذا «التحالف»!

نعم تمّ إسقاط نظام صدام حسين أميركيّاً، غير أنّ العراق لم يسقط تماماً في القبضة الأميركية، كما كانت تتطلع الإدارة الأميركية وعقل الغزو الأميركي، على العكس تماماً، فقد تم إسقاط النظام العراقي أميركيّاً في حين أنّ النفوذ كان إيرانيّاً وسوريّاً، وعلينا أن نتذكّر جيّداً أنّ الإصرار الإيراني والسوري إلى جانب أبناء العراق هو الذي أدّى إلى خروج الأميركي من العراق، وبدلاً من أن يرتَّب العراق أميركيّاً كان الأميركي هو الأضعف على مستوى التأثير في العراق، وهذه واحدة لا يدركها كثيرون حتى اللحظة، لكنّها في المنجز الاستراتيجي لمن وقف في وجه الأميركي تعتبر إنجازاً هاماً، لم يكن بمقدور الأميركي أن يتجاوزها، حتى بدا لكثيرين في قراءة ظاهرية سطحية أنّ الولايات المتحدة أسقطت نظام صدام حسين كي تهدي العراق إلى إيران، وطبعاً هذه قراءة يقدّمها البعض في السياق السياسي للإساءة إلى العراق أولاً وإلى إيران ثانياً.

كذلك بالنسبة إلى عناصر إقليمية كانت أساسية في تشكيل «التحالف»، وهي العناصر التي حالت دون رسم خرائط سياسية جديدة، مكّنت الجمهورية الإسلامية من تكريس دورها ودور حلفائها في وجه محاولات تغيير هذه الخرائط، ونعني بعناصر «التحالف» هنا كلاً من المقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية.

علينا أن ندرك جيّداً أنّ كلاً من المقاومة اللبنانية والفلسطينية حالتا دون إمكانية تمرير خرائط إقليمية جديدة تمكّن أطرافاً دولية وإقليمية من إسقاط مشروع «التحالف»، أو النيل منه، من خلال العدوان المتكرّر الذي شنّه «كيان الاحتلال» على كلّ من لبنان وغزّة، الأمر الذي أدّى إلى تماسك «التحالف» أكثر، والحيلولة دون تمكّن الولايات المتحدة ومَن معها، من إعادة إنتاج خرائط تناسب تطلعاتها الإمبريالية، فقد أسقط هذا «التحالف» أخيراً مشروع التطبيع الذي كان يرمي إلى تصفية القضية الفلسطينية والانتهاء منها، وهذه ثانية لم يتمكن الأميركي من خلالها أن يعبر «نظيفاً» إلى المنطقة.

كما أنّ صمود سورية كان أساسيّاً ورئيسيّاً في صمود «التحالف»، بالتالي الحفاظ على قوّته وتأثيره، وهو الذي ساهم في استطالة طبيعية ومشروعة في جسد «التحالف» ذاته، لجهة بعض الرؤوس الأخرى على مستوى الإقليم، فالعراق الذي كان يجب أن يكون أميركياً وفق منظور الاحتلال الأميركي اليوم يساهم مساهمة خلاقة لجهة وقوفه إلى جانب هذا «التحالف».

كما أنّ اليمن الذي كان يرتّب كي يلحق بالبيت الخليجي تحت عباءة أميركية، وكان متردّداً وخجولاً في التعبير عن انحيازه وتخندقه إلى جانب «التحالف»، الذي تعتبر إيران رئيسية فيه، اليوم نراه مدفوعاً من قبل الآخرين كي يصطف اصطفافاً كليّاً في هذا «التحالف»!

إضافة إلى ذلك نرى أنّ هناك قوى إقليمية لم تستطع أن تؤدّي ما كان مطلوباً منها أميركيّاً، من أجل النيل من هذا «التحالف»، فـ»الإخوان المسلمون» أضحوا خارج تاريخ المنطقة سياسياً، كما أنّ «مملكة آل سعود» متورّطة في دماء ووحل اليمن، إضافة إلى أردوغان الذي يبحث عن إمكانية خروج رأسه سالماً من خريطة سياسية تعدّ لتركيا، أمّا بالنسبة إلى قطر نعتقد أنّ أمرها لا يتعدّى إمكانية الإيماء لها بالصمت، وهي كذلك سوف تصمت، بعد أن وزّعت مليارات الدولارات استثماراً في قتل الناس ودمار المجتمعات ولا أقول الدول.

بهذا المعنى نرى أنّ «الاتفاق النووي» يجيء عنواناً لخريطة تتجاوز المعنى الذي يصدّره كثيرون، فهو يحاكي ناتج اشتباك مركّب لم يبدأ في العراق ولم ينته في سورية، بالتالي فإنّ هناك حسابات أميركية وأوروبية هامة لجهة أنّ إمكانية الحفاظ على الحدّ الأدنى لمصالحها على مستوى المنطقة يتطلب «تعاوناً» مع هذا «التحالف»، كما أنّ «التحالف» يتطلع إلى هذا «التعاون» على أنّه تعاون الضرورة، وهو ناتج اشتباك لا يمكن أن يصرف إلا بهذه الطريقة، ولا يمكن لهذا «التعاون» إلا أن يكون من خلال «الشرفة النووية»، وهي «الشرفة» التي سوف يُنظر منها على المنطقة لعشرات السنوات المقبلة!