يعتبر البقيع الغرقد، أو كما يصف بعضهم تلك البقعة بجنة البقيع من أهم مقابر المسلمين؛ فهي مقبرةٌ لخمسة من المعصومين عليهم السّلام، والعديد من الأولياء والصّالحين، ومقبرةٌ لأهل المدينة النورة ولعامة المسلمين من مختلف المذاهب، وقد دفن في البقيع سيّدة نساء العالمين فاطمة الزّهراء عليها السّلام(على رواية)؛ وقد كان فيها قبّة للسيّدة الزّهراء، وأربعةٌ من الأئمة الأطهار؛ أوّلهم الإمام الحسن المجتبى سبط رسول الله عليهما السّلام؛ ومن ثمَّ سيّد السّاجدين الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليهما السّلام، ومن ثمَّ باقر العلوم الإمام محمد بن علي الباقر عليهما السّلام، ورابعهم إمام الفقهاء جعفر من محمد الصّادق عليهما السّلام، بالإضافة إلى قبر عمّ النبيّ العبّاس بن عبد المطلب، وقبور زوجات النّبي، وعمّاته، ومرضعته، ووالده، وقبر والدة الإمام عليّ بن أبي طالب فاطمة بنت أسد عليهما السّلام.

هذه البقعة المقدّسة الّتي دفنت فيها هذه الأرواح الزّكيّة الطّاهرة، والّتي هي محطّ هبوط الملائكة، ومزار المسلمين من مختلف الأطياف على مدى مئات الأعوام، ومذ أن دَفَنَ رسول الله صلى الله عليه وآله الصّاحبيّ الجليل عثمان بن مظعون؛ وبنيت عبر التّاريخ فيها القباب والأضرحة والمسلمون يعظّمون هذا المكان ويقصدونه من أماكن بعيدة تأسّياً برسول الله صلّى الله عليه وآله الّذي كان يقصد البقيع دائماً للدّعاء وللإستغفار لأهله.

بقيت هذه المقبرة المقدّسة عامرة بأضرحتها وأبنيتها والقبب القائمة على مقابر المعصومين والمقدّسين لغاية الثّامن من شوّال من العام 1344 للهجرة الموافق 21 نيسان 1925، حيث قامت مجموعات من أصحاب الفكر التّكفيريّ ـ وعلى خلاف رأي جمهور المسلمين ـ بإصدار فتوى بحرمة البناء على القبور!

فتسارعت هذه المجموعات إلى هدم قبور الأئمة الأطهار والصحابة في البقيع الغرقد؛ وسوّوها مع الأرض، وتركوها عرضة للهتك ونهب كلّ ما كان في ذلك الحرم المقدّس من هدايا وآثار قديمة...

إنَّ ما قامت به هذه المجموعات محاولة منها لطمس معالم الإسلام الأصيل والأئمة الأطهار وزعزعة المقدّسات الإسلاميّة عبر التّاريخ، فما محاولة طمس الأثار والتّاريخ إلّا لمحو ذكر الإسلام؛ ولكي لا يبقى أيّ رمز ومثل لطلّاب الحّق والحقيقة؛ ولولا تأثير هذا المكان المقدّس الكبير في نفوس المؤمنين بالبركات النّورانيّة فلماذا سوّيت بالأرض؟

فأين كان علماء تلك المنطقة عبر التّاريخ عندما بنيت هذه الأضرحة؟ ولماذا لم يمنعوا بناءها؟ ولماذا لم تصدر الفتاوى عبر التّاريخ بوجوب هدمها؟

هذه الأفكار، وهذا المنهج الّذي لا يرضاه الدّين الإسلاميّ الحنيف ولا يقبل به عموم المسلمين، والّذي ليس لإدعاءاته أدّلة لا في القرآن الكريم، ولا في السّنة الشّريفة، ما هي إلا إجتهادات وآراء لا تبعد عنها اليد الصّهيونيّة في التّلاعب بمعتقدات الإسلام، وزعزعة مقدّساته وطمس آثاره..

وإنَّ ما نراه اليوم من قتل وذبح وتشريد وهدم للقبور ورفع للرّؤوس ما هو إلا نتيجة ذلك الفكر وصنيعة تلك اليد، حيث كانت انطلاقة هذا الفكر في عصرنا الحالي منذ ذلك التّاريخ بهدم قبور الأطهار في الثامن من شوّال، وبالسّكوت عن هذه الحادثة الأليمة، وفتح المجال بالتّلاعب بالدّين ومعتقداته الحقّة وآثاره العظيمة؛ لكن: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّـهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّـهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (1).

(1) سورة التوبة اية 2-3 .