أكثر ما يثير اللبنانيين الصادقين بإخلاصهم ووفائهم لوطنهم ذلك التفلّت الأخلاقيّ في معالجة مسألة ​النفايات​. والأكثر إثارة من التساؤلات البديهيّة التي تتراكم بل تحتشد في الأذهان والعقول الجائعة للحلول، أنّ مشهد تراكم النفايات وتكدّسها على الطرقات، بروائحها النتنة، ومشهدها المقرف، والمقزّز للأبدان، يظهر بحدّ ذاته نتانة الطبقة السياسيّة اللبنانيّة، فتتماهى تلك بعفن مهيمن على عقول معظم الذين يهبّون للهتاف لزعيم سياسيّ من هنا وهناك، فيما الأمن الاجتماعيّ متلاش بل يعيش حالة عدميّة في ظروف عبثيّة قاتمة، ليبدو العقل اللبنانيّ مخدّرًا لا يتفاعل مع الأحداث بواقعيّتها وحقيقتها، فلا مسألة النفايات تعنيه، ولا مشهد القتل كما في جريمة قتل جورج الريف تحثّه لمزيد من الصلابة بوجه العنف ونصرة الضعيف، ولا الخبز والجوع والكهرباء والماء قضايا تجذبه للدفاع عن حقّه في الوجود بأبسط المعايير الممكنة. أليست على سبيل المثال لا الحصر قضيّة كهرباء زحلة إحدى العناوين الخطيرة التي لم تتمّ معالجتها، فيتمّ ردع مافيات المولّدات الكهربائيّة عن غيّهم، وهم صورة مصغّرة عما يحصل في معظم الأقضيّة اللبنانيّة؟! واللبنانيّ بسبب منها يدفع فاتورتين واحدة للدولة وأخرى لصاحب المولّد، فيما السؤال الشرعيّ لماذا لا تؤمّن الدولة الكهرباء والماء بصورة يوميّة أو لنقل شبه يوميّة لكي يهنأ المواطن في حياته؟

الموجع في هذا المشهد الجارح والقبيح، والشديد القيح، أيّ مشهد النفايات، بأن معظم الطبقة السياسيّة تتعاطى معه بخلفيّة استثماريّة وليس بواجب وطنيّ يقتضي منها أن تدفع بالأمور نحو الحلّ الجذريّ. والخطير في انسياب المشهد وانبساطه في الحيّز السياسيّ-الاجتماعيّ، أنّه يكشف وللمرّة الأولى بأنّ نظام الحلّ في مداه الاستراتيجيّ رحمه فدراليّ وطائفيّ بامتياز. ذلك أنّ إقفال مطمر الناعمة بخصوصيّته المذهبيّة قد يقود لرفض مناطق أخرى إيجاد مطامر على أرضها بالسياق المذهبيّ المنكشف على وجه التحديد من الناعمة، على الرغم من محاولة جذبه نحو نطاق النضال الذي يقوده المجتمع المدنيّ.

يذكّرنا ما يجري في فضيحة نفايات لبنان بما حصل بنابولي إحدى أجمل المدن الإيطاليّة، وقد تراكمت قُمم النفايات في شوارعها وأحيائها منذ سنة 2009 حتّى سنة 2012، ولم تستطع الحكومة الإيطاليّة حلّ تلك المعضلة إلاّ حين اتفقت مع المافيا المهيمنة على نابولي بصفقة واضحة فتمّ الحلّ على لمّ النفايات وتصنيعها. القضيّة أنّ معظم السياسيين يفتشون على مكاسب لهم في كلّ مناقصة أو صفقة، فلمَ لا يبتكر العقل السياسيّ اللبنانيّ حلاّ جذريًّا ومتوازنًا بإيجاد معامل تصنيع للنفايات فيتم استخراج الطاقة منها كما يحصل في عدد من البلدان الراقية، ونحن بحاجة لمزيد من الطاقة فيستفيدون من خلال تقاسم الحصص إذا شاءوا ويفيد المواطن والوطن بأن الشوارع والأزقة تعود نظيفة، وتتأمّن الطاقة له بهذه المصانع الإنتاجيّة، أليس هذا ممكنًا ومعقولاً للجميع، في هذا التوازن وإن كان مقيتًا بين الطبقة السياسيّة والمواطنين؟

يكشف هذا العنوان بترابطه مع سائر العناوين، بأن الأزمة ليست ازمة كيانات طائفيّة أو مذهبيّة، او أزمة رئاسة أو حكومة، ليست هي أزمة قانون انتخابات فقط، بل هي أزمة وجوديّة لوطن لم يعد قائمًا في العقول والقلوب، وهو يتدحرج أكثر فأكثر بهذا النظام السياسيّ الصدئ المحتاج لعمليّة جراحيّة خطيرة حتّى لا يستحيل جثة هامدة.

تدحرج النظام السياسيّ بكلّ تلك الملفّات والعناوين، بفساد الصفقات والنفايات، بعدم إقرار قانون يتيح التنقيب عن النفط في البحر والمحافظة على سيادة امتلاكنا له، سيقود حتمًا إلى حراك ينتج عنه مؤتمر تأسيسيّ جديد. ويخطئ من يزال يعتقد بأنّ لبنان قادر أن يمشي بهكذا نظام تتكدّس في جوفه نفايات سامّة تمزّق البلد إربًا إربًا، كما تتكدّس فعليًّا على الأرض. يخطئ من لا يزال يظنّ بأنّ ترقيع الحلول يبقي على استقرار لم يتأمّن في أصله وجوهره بالمعطى الداخليّ بقدر ما تأمّن بالإرادة الدوليّة القارئة بأنّ أوان الانفجار لم يحن بعد على الأرض اللبنانيّة. وقد دلّت التجارب اللبنانيّة بأنّ أية تسوية (الطائف، الدوحة) لا تنشأ إلاّ من بعد انفجار أمنيّ ترعاه الدول في لحظات التغييرات الكبرى في المنطقة، ولهذا الانفجار مفرداته الكثيرة، وملفّ النفايات بحال استمرار سيلانه العبثيّ، مفردة كبرى تقود إلى الانفجار.

الأزمة الاجتماعيّة، بل الأمن الاجتماعيّ بتلك الاصطفافات الواضحة، هي اخطر ما يمكن أن يلجه لبنان في هذا الزمن المتحوّل وفي قلب الإقليم المتوتّر. الحياة الكريمة بتفاصيلها إذا فقدت فماذا ينفع البقاء والعيش في مستنقع آسن كهذا؟

ويبقى السؤال الأساسيّ لماذا لا يتظاهر اللبنانيون من أجل نظافة وطنهم، من أجل لقمة عيشهم، ومتانة اقتصادهم من أجل سلام سلامتهم وصلابة أمنهم. لقد فقد معظم اللبنانيين إحساسهم الصادق وحميّتهم الحقيقية ونخوتهم... يقتل جورج الريف أمام مارّة ويتفرجون على الذئب وهو يفترس ضحيته بدم بارد، يمرّون من أمام أكوام النفايات ولا يحركون احتجاجًا جماعيًا... ويبقى معظم الناس يسيرون خلف زعيمهم الطائفي يصرخون بالروح والدم نفديك يا زعيم، وليس من يفتدي لبنان ليولد نقيًّا، فيعيش الزعماء على حساب لبنان واللبنانيين بصفقاتهم المشبوهة. ألا وقى الله لبنان وأدنانا من حلّ جذريّ يسمح لنا بالبقاء في لبنان أخضر حلم بها الرحابنة ونرجو أن نسلبه من الحلم إلى الحقيقة.