سينتزع المحققون في الأمن العام من ​أحمد الأسير​ كلّ الأبعاد السياسيّة لحراكه السابق من محليّة إلى إقليميّة وبالتحديد عربيّة. لن يكون التحقيق جزائيًّا وجنائيًّا نسبة للجرائم التي ارتكبها، بل سيتوسّع ليطال التعليب من جوانبه كافّة من ماليّ ولوجستيّ وسياسيّ. فقد تنامت قدراته بسرعة البرق، وأحرق وجهه بلعبة بدت أكبر من حجمه، وما كان له أن يغامر لو لم يتأمّن له الغطاء. كلّ ذلك سيكون في عهدة الأمن العام وبعد ذلك في عهدة القضاء، وما من شكّ بأنّ المدير العام للأمن العام اللواء عبّاس إبراهيم قام بإنجاز كبير وضخم، لكنّ الإنجاز الأهمّ بالنسبة لكثيرين أن تنكشف الأوراق كلّها التي انغرست في التربة اللبنانيّة وتفاعلت منها في الحرب في سوريا وعليها... وفي السياق المذكور، أوحى مصدر مهم فور اعتقال الأسير بأنّ رؤوسًا كبيرة ستتدحرج، كلّ من كان له صلة بهذا الأسير أو بالحراك الإسلامويّ المتطرّف قد آن زمان غلبته وكسر التلاشي الطائفيّ والفوضى المذهبيّة لصالح التوازن، بل لصالح الشراكة اللبنانيّة المفقودة، وقد ازداد ضياعها أكثر فأكثر بالتماهي مع قوى اعتدال كان لها في حقبة سياسيّة أن تستثمر هؤلاء سواءً في صيدا أو طرابلس أو عرسال.

على هذا الأساس، تجري بعض المراجع والأوساط السياسيّة قراءات تقييميّة لواقع لبنان السياسيّ في ظلّ المرحلة الانتقاليّة بين عهد قديم وآخر جديد. في واقع الأمور تظهر القراءات الأوليّة بأنّ الاصطفاف بواقعه الراهن سيتبدّل طبقًا للتغييرات الجذريّة المتلازمة ما بين الطاولة والميدان، وقد أمسى الحراك الميدانيّ جزءًا من طاولة التفاوض بل هو فوقها في التأثير وليس فقط بالتأثّر. وتبدي القراءات المبداة وبوضوح تام حرصها الشديد على أن تظهر بعض الفئات السياسيّة رؤيتها الحكيمة والمتبصرة في تشخيصها لواقع المتغيّرات الجذريّة وانعكاسها على المفردات السياسية والأمنيّة الداخليّة بمعايير دقيقة ومدروسة. ومن هذه الزاوية، اتجهت القراءات نحو تشخيص حراك رئيس تكتّل "التغيير والاصلاح" العماد ميشال عون وكلّ ما كسبه منه. وتعتبر تلك الأوساط بأنّ ما يطالب به عون محقّ في الشكل والجوهر، ولبنان كما قال الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله لا يحكم من طائفة قائدة بل يحكم بمنطق الشراكة، والمناصفة قلبها. لكنّ حراك عون يجتاج بدوره لنقد في بعض مندرجاته وتفاصيله، في ظلّ ما سينكشف من أوراق في الآتي من الأيّام. من الاتجاهات النقديّة الظاهرة من أوساط قريبة ومحبّة للعماد عون بأنّه لم يحسن التمييز بين السنيّة السياسيّة والشيعيّة السياسيّة في بعض العناوين، وإن تلاقى رمز الشيعيّة السياسيّة رئيس مجلس النواب نبيه برّي في الكثير من التفاصيل الداخليّة مع رمزيّ السنيّة السياسيّة النائبين ​سعد الحريري​ وفؤاد السنيورة على الرغم من التمايز بينهما، غير أنّ عون مدرك أن للتمايز حدودًا واضحة تحتويه الخيارات الاستراتيجيّة المضبوطة من "حزب الله" الحليف الأقرب إلى عون، والمتكامل معه بوحدانيّة النضال. لقد بالغ الرجل وبحسب الأوساط عينها بتصديق سعد الحريري وعن نيّة طيبة حتمًا، في حين أن الدلائل المرافقة آنذاك للقاءات من باريس إلى بيت الوسط، لم تكشف الصفاء الذهني والنفسي عند الحريري في اقتباله تسوية جذريّة تجمع الممثّلين الشرعيين للوجدانات الطائفيّة، فقراره ليس بيده، ومرتبط بالفيتو الموضوع عليه آنذاك من قبل وزير الخارجية السعودي السابق سعود الفيصل. لقد انكشف تهرّب الحريري حين كشف برّي تفصيليًّا للعماد عون بأن "تيار المستقبل" ليس بوارد تسوية تأتي بقائد فوج المغاوير العميد شامل روكز قائدًا للجيش، ولا هو بوارد ترشيحه رئيسًا للجمهوريّة خارج سياق الإجماع المسيحيّ، والجميع متمسكون بالرئيس التوافقيّ. فلماذا صدّق عون الحريري وخاصم برّي؟ واعتبرت تلك الأوساط بأنّ مخاصمة رئيس المجلس النيابي بهذا الشكل خطيئة ينبغي تصحيحها، بخضوع الجميع لقرارات المجلس الدستوريّ غير الواقعيّة بالتعليل الدقيق القائم في النصّ للفحوى المشرعن للمجلس بالمحتوى القانونيّ وليس الشرعيّ.

وفي المقابل تخطّئ تلك الأوساط برّي بعدم بت مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ الانتخابيّ في أولويّة المشاريع القانونيّة الموضوعة للنقاش، بتماه واضح بينه وبين رئيس اللقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط والنائبين السنيورة والحريري. وقد كشفت بأنّ "حزب الله" هو الوحيد في الوسط الإسلاميّ من دافع عنه بالعمق الاستراتيجيّ من خلال عضو كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب علي فيّاض ومواقفه خلال النقاش في اللجنة برئاسة النائب ​روبير غانم​. لقد تمسّك "حزب الله" آنذاك بهذا المشروع لإيمانه بأنّه يؤمّن التوازن وما كان على توافق مع برّي في هذه الرؤية. وعدم بتّ هذا المشروع أدّى بدوره إلى توسيع الخلاف بين برّي وعون. وعلى الرغم من تراكم العناوين الخلافيّة بين الرجلين، فإنّ العمل جار على قدم وساق لرأب الصدع والاتجاه لإعادة المياه إلى مجاريها. المسألة ليست شخصيّة بل هي سياسيّة نوعية في فهم الواحد الآخر، وقد يلتقي القطبان في أقرب فرصة ممكنة برعاية من السيّد نصرالله، وسعي بعض أصدقاء الطرفين الأقربين، وعلى رأسهم نائب رئيس مجلس النواب سابقًا إيلي الفرزلي.

إنّ المرحلة الانتقاليّة الدقيقة للغاية بحسب التوصيف المعطى من تلك الأوساط للبحث تتطلّب استجماع الأوراق بين ميشال عون ونبيه برّي، وبين ميشال عون ورئيس تيار المردة سليمان فرنجيّة، فلا يزدرينّ الواحد الآخر لأنّ الجميع سيرتوي من الينابيع المتفجّرة من جوف تلك المرحلة الجديدة وسوف تتعزّز الشراكة الفعليّة بين المسيحيين والمسلمين ليس في لبنان بل في معظم دول المشرق العربيّ. لا تعني تلك القراءة على الإطلاق بأنّ خيارات العماد عون خاطئة بعمقها الجوهريّ بل هي خيارات وجوديّة وصائبة ومحقّة بكلّ ما للكلمة من معنى، وهو وكما قال السيد نصرالله معبر لرئاسة الجمهوريّة ولمجلس الوزراء، وليس لأحد أن يكسره أو يعزله. غير أن الرهان على "تيار المستقبل" لم يعد مجديًا بلا ضمانات، وبالتالي، فإنّ الأوراق التي بدأت تتناثر وتحترق، والرؤوس التي ستتدحرج واعتقال واحدها أي الأسير هي المنطلق لعمليّة جراحيّة تطهيريّة ستتماهى مع ما يجري في الميدان السوريّ، من جرود عرسال وصولاً إلى عين الحلوة المأوى الكبير للإرهابيين والتكفيريين من لبنانيين وسوريين.

المرحلة الانتقاليّة تتطلب المزيد من الهدوء والحكمة في رفقة مع الحزم الذي تظهره القوى الأمنيّة. والحكمة تقتضي بصراحة مطلقة تعويم مبادرة اللواء عباس إبراهيم لتبنى عليها الرؤى التسووية الجديدة القائدة نحو الشراكة ريثما تنتهي معارك الحسم في الميدانين السوريّ واللبنانيّ على السواء والتي ستبيحها وتكللها بالنور من الباب العريض، في ظلّ ترسيخ الاتفاق النوويّ الإيرانيّ والدوليّ وتجذيره، وهو حجر زاوية العهد الجديد في الإقليم الملتهب.