في إطار الموت البطيء الذي تعيشه البلاد في هذه المرحلة شهدت الأيام الماضية تطورين بارزين على صعيد السلطة اللبنانية ينبغي التوقف عندهما.

الأول: الفشل في التصدي لأزمة النفايات التي يرزح البلد تحت وطأتها وشرورها المتفاقمة.

الثاني: تفرّد فريق في الحكومة بالقرار المتعلق بالتمديد لقائد الجيش ورئيس الأركان وأمين عام مجلس الدفاع الأعلى.

وإذا كان الحدث الأول يكشف حالة الكسل والعجز التي تجتاح السلطات وتمييعها في اجتراح الحلول الممكنة لمشاكل واقعية، فإنّ الحدث الثاني يكشف جنوح فريق في الحكم إلى التفرّد بالقرار بمعزل عن إرادة الفريق الآخر. في وقت تنتظر فيه الناس استنفاراً من كلّ أطراف السلطة للتفاهم والتقارب لحلّ المشكلات القائمة والمتفاقمة سياسياً وأمنياً واقتصادياً وبيئياً.

إنّ أسوأ سياسة يمكن اعتمادها في لبنان هي سياسة احتكار القرار التي تستتبع إقصاء الآخر وإنكار حقوقه. فعندما يعطي أحدهم الحق لنفسه في السيطرة والهيمنة في بلد تعدّدي له ظروفه الخاصة والحساسة، فإنه كمن يلعب بالنار دونما اعتبار للهشيم المتكدّس من حولها، ودونما انتباه للانقسام الكامن والمرشح للانفجار في أيّ لحظة.

وهذه السياسة التي يميل إليها قصيرو النظر وذوو النفوس الضعيفة لا تدلّ فقط على الأنانية المفرطة في وقت تحتاج البلاد إلى العطاء والتضحية، وإنما تدلّ أيضاً على استخفاف بالميثاق الوطني الذي من دونه يتحوّل اللبنانيون إلى مجرد مجموعات طائفية متناحرة يتحدث أصحابها عن عراقة النسب والحسب فيما هم يتساقطون على طريق التردّي والانحطاط.

فالسياسة هي فنّ الارتقاء بالمجتمع وحلّ مشاكله، وليست شطارة إصدار مراسيم منتصف الليل والنيل من شركاء الوطن والمصير. هي مواقف جريئة ونبيلة يدافع أصحابها عنها، ويشرحون للملأ دوافعها، وليست قراراً يؤخذ تحت جنح الظلام تمثلاً بالمافيات التي تعيث في الأرض فساداً.

السياسة هي نقاش حرّ وبحث عن الأصلح توصلاً إلى القرار الأكثر تعبيراً عن الحقيقة والأكثر استجابة لمصلحة البلاد، وليست كبتاً للرأي وترصّداً للآخر واصطياداً لحقوق الجماعة.

قد يسجل المحتكر للقرار نقطة على خصمه في لحظة ما فيمرّ الحدث من دون مضاعفات إذا كانت الأحوال التي تمرّ بها البلاد طبيعية أو قادرة على الامتصاص والاحتواء، ولكن عندما تكون الأحوال في البلاد وحولها متفجرة وخطيرة وتنذر بأوخم العواقب فإنّ خطأ القيادات يكون مضاعفاً والعواقب أدهى.

فكيف لنا أن نطمئن لمن يرفض مبدأ المشاركة ويحتكر القرار في البلاد في لحظة نحن بأشدّ الحاجة فيها إلى التكاتف والتضامن لتقوية الجبهة الداخلية ودعم الجيش والمقاومة والقوى الأمنية كلها لمواجهة الأخطار الداهمة، سواء تلك التي تمثلها «إسرائيل» أو تلك التي تحملها موجات الغلوّ والعنف والإرهاب.

إنّ المسألة المطروحة تتخطى التعيينات والصفقات والنفايات التي أجهزت على ما تبقى من رصيد للسلطة سبق أن تآكل بفضل إهمال لم يسبق له مثيل وجشع يشيب له شعر الفتيان… إنها تتخطى كلّ ذلك لتتصل بمعركة المصير التي تواجه كلّ الكيانات والجماعات والأفراد في منطقة مطوّقة من الصهيونية والإرهاب، ومظلومة من حكامها وأولي الأمر فيها.

فهذه المعركة تحتاج إلى نهج ينقذ مؤسسات الدولة من الفساد والانهيار، ويؤهّلها للامتحانات الصعبة المقبلة، لا إلى نهج يستفرد بالقرار، وينتظر هفوة من شريكه لإبعاده وهو يعرف بالعمق أنّ البلاد بحاجة إليه اليوم وغداً وبعد غد.

حقاً الجهل في السياسة مصيبة. فإذا كنت تدير عملاً خاصاً وأخطأت التقدير فأنت وحدك تتحمّل الضرر، أما إذا كنت تدير مؤسسة عامة وأخطأت التقدير فإنّ البلاد كلها تتحمّل الضرر الناتج من قرارك.