يعاند محترفو المهن الخشبية في صيدا الكساد والركود ويصمدون امام زحف المصنوعات المعدنية والبلاستيكية ليحافظوا على مهن الآباء والاجداد ويقدمون عروضا مختلفة بين تشكيلات جديدة تشد انتباه المواطنين والسواح وبن حسومات لا تقاوم.

وصيدا القديمة التي تشتهر بأسواقها التاريخية وبحرفها التراثية، ما زال قلة من الحرفيين القدامى داخل اسواقها وفي بعض المحال التجارية المترامية عند تخوم اسوارها لجهة البحر غربا ولجهة شارع "الشاكرية" شرقا يحفظون مصنوعاتهم الخشبية من الانقراض امام "غول" الغلاء وركود البيع وينتظرون حلول الصيف ليأتي متسوقون لبنانيون وسياح عرب واجانب لشراء منتوجاتهم.

ابتكارات جديدة

الشاب وفيق كوسا، واحد من الذين ورثوا المهنة عن أبيه، حول محله الصغير على الأوتوستراد البحري الى معرض في الهواء الطلق، اذ يعرض العشرات من الكراسي الخشبية بمختلف الاحجام والاشكال لجذب انتباه الزائرين الى المنطقة التي تعتبر سياحية وتراثية بامتياز قبالة مرفأ وميناء الصيادين وعلى بعد مئات الامتار من خان الافرنج والقلعة البحرية التي تشهد عادة حركة زوار من خارج حدود المدينة الجفرافية.

يستعيد كوسا العصر الذهبي الذي عاشته هذه المهنة التي ازدهر سوقها في حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حيث كان يقصده المتسوقون من كل حدب وصوب، "لان الحرف الخشبية من كراسي وسلال وطبليات وقباقيب تعمر عمّر أكثر من مئة عام على خلاف المصنوعات المعدنية والبلاستيكية التي لا تعمر طويلا"، قبل ان يضيف "السبب ليس فقط انعدام القدرة الشرائية عند الناس وانما الخلافات السياسية، اضافة الى احداث سورية التي انعكست ركودا على مجمل الحركة التجارية والاقتصادية في صيدا كما في مختلف المناطق اللبنانية".

غير ان الجمود يعانده كوسا بابتكارات جديدة، بقوله "نحاول كسر الركود بعرض تشكيلات جديدة، اضافة الى الحسومات، لكن الامر سيان ما ينذر بعواقب وخيمة، بدأت تظهر في اقفال بعض المحلات او تسريح عدد من الموظفين او استبدالهم بآخرين بأجر اقل ولا سيما من النازحين السوريين"، مؤكدا انه ما زال يواظب على صناعة الكراسي الخشبيّة باحجام متعددة وبالوان مختلفة التي يمكن استخدامها في المنازل وعلى الشرفات وفي الحدائق والمقاهي والمطاعم صيفا شتاء".

واوضح "لقد طال الغلاء كل مواد العمل، فمتر الخشب وهو عادة من شجرتي السرو والحور ارتفع من مئة دولار الى ثلاثة اضعاف، والقش من ثلاثة دولارات الى خمسة ونصف، وهي مرشحة للارتفاع مستقبلا، لم تعد المهنة تسمن ولا تغني عن الجوع ولكننا مستمرون بهلذ كجزء من الحفاظ على التراث ومهنة الاباء والاجداد.

ويبيع كوسا سلة القش الصغيرة بنحو 7 الاف ليرة لبنانية، بينما الكراسي تتراوح اسعارها بين الصغيرة 12 الف ليرة لبنانية والمتوسطة 20 الف والكبيرة 30 الف، بينما يبلغ سعر الاريكة الخشبية ما بين 90 و170 و200 الفا وفق حجمها"، ليردف "ان المهنة ليست سهلة، فنحن نحتاج إلى ثلاثة أيام متتالية لتجميع القش للكرسي، والعمل يدوي 100% ولا تدخل الآلات بها ابدا".

ركود وجمود

وحال الحرفيين داخل اسواق صيدا القديمة، ليس افضل من كوسا، لم تسترجع زمن عزها، يشكون الركود والجمود وقد تحولت محترفاتهم الى مكان لتزيين السوق بعد الترميم وتوحيد الابواب والنقش والالوان او لالتقاط الصور التذكارية اكثر من البيع.

ويؤكد اصحاب المحال ان مشروع الارث الثقافي الذي ينفذ في المدينة القديمة منذ سنوات بتمويل من البنك الدولي، اضافة الى مبادرات بعض المؤسسات والجمعيات الاهلية ساهمت في إستقطاب المزيد من الزائرين اللبنانيين من مختلف المناطق او السواح العرب او الاجانب بعدما بات جذابا يزهو تألقا وكأن يد فنان كشطت عنه قشرة الإهمال وأعادت إليه حلته التاريخية وترمم ما تداعى من حجارته، لتجمع بين الفن العمراني وتراث الماضي، فتنتشر الدكاكين على الجانبين بأبوابها الخشبية القديمة والتي تم تجديدها وزينت ببعض النقوش.. لكنهم بالمقابل يشكون من ان حركته التجارية محدودة، تصاب بالركود حينا بسبب الضائقة الاقتصادية والمعيشية التي يعاني منها اللبنانيون، فيما السواح الاجانب يتفرجون أكثر مما يشترون"، فالصامدون اليوم في سوق "النجارين" هم قلة لا يتجاوز عددهم اصابع اليد، و"الزمن تغير" يقول احمد ابو ظهر احد محترفي المهنة، قبل ان يضيف "يتكامل السوق مع حجارة أثرية وقناطر وشبابيك ومحال تجارية تضم كل ما يتعلق بصناعة الخشب من طاولات وقباقيب وطبليات ومناخل وكراسي وغيرها من المنتوجات التي تتميز بلمسة فنية جميلة وكلها أعادت للسوق رونقه الغابر.. ولكنها لم تعد له دورته الاقتصادية، فنحن نعاني من ضيق العيش ونقع بين فكي كماشة الاقفال او الحفاظ على التراث وكلاهما مر وصعب".

ويعود أحمد أبو ظهر بالذاكرة عقود خلت نقلا عن جده، كيف اشتهرت السوق بصناعة العلب الخشبية التي تقدم فيها الحلوى للملوك والسلاطين، وكانت تصدّر إلى الخارج، وكذلك عن توفير صناديق خشبية كجزء من "جهاز العروس"، لا سيما الأميرات منهن، فضلاً عن تولي أصحاب المحال تسييج البساتين بالأخشاب.

ورغم ذلك، يواظب على حرفته التي تعلمها منذ نعومة أظافره، ولا يخف عتبه على غياب الرعاية الرسمية وتقصير المؤسسات الأهلية، فضلاً عن غياب اليد العاملة الشابة الراغبة في استمراريتها، امام عصرنة الابتكارات، فجيل الشباب اليوم يرى هذه الحرفة تقليدية وقديمة، ولم تعد تتماشي مع طموحه، كما لو كانت تقض مضاجع أحلامهم"، لكنه بثقة وعزم يؤكد "لن اعتزل هذه المهنة حتى تلفظ روحي من جسدي، وامل أن أجد من يتعلمها ليكمل مسيرة الحرف اليدوية مثلي، لأنه سيأتي يوم ونتحسر عليها وتصبح اثرا بعد عين".