كنا نقول منذ اللحظات الأولى لما تمّ تسويقه «ربيعاً عربيّاً» بأنّه مشروع عدوان جديد، على المنطقة والعالم العربي، وكنّا نؤكد على أنّه مشروع لإعادة إنتاج خرائط سياسية جديدة تناسب مصالح التغوّل الأميركي ومطامع بارونات رأس المال العالمي، إذ أنّ الخرائط التي سادت أو حكمت المنطقة وجزءاً هاماً من العالم لم تعد قادرة على تأدية أو حماية تلك المصالح التي كانت تتصاعد وتتسع نتيجة القدرة الخارقة الجديدة على التغوّل والنهب، والتي كانت جزءاً من تطوّر أدوات المعرفة ذاتها.

ربّما لعبنا في الأيام الأولى على بعض المفردات السياسية التي كانت تحاكي صعود المشهد العام لهذا «الربيع»، كون أنّ شارعاً كان يتشكل في مواجهة أنظمة طالما كنّا نختلف معها في مواقف عدة، وهي، أيّ هذه الأنظمة، كانت رائدة مشروع التطبيع مع كيان الاحتلال، بالتالي فإنّ أيّ سقوط لها كان واجباً أن نستفيد منه، ولا نترك الأميركي الوحيد الذي سيبني على هذا السقوط، أو يستفيد منه!

لقد انقسم العالم العربي، وكان انقسامه حادّاً، حيث خلّصت الأنظمة الملكية العربية نفسها ممّا يحصل، في ظلّ معلومات كانت تفيد أنّ هذه الأنظمة قد وضعت نفسها ومقاديرها في خدمة مشروع العدوان ذاته، وأمّنت له أدواته الرئيسية في التمويل والتحريض والدفع باتجاه الوصول إلى لحظات مناسبة لإعادة إنتاج تلك الخرائط، ظنّاً منها أنها سوف تكون بعيدة أو معفيّة من وصول هذه الخرائط إلى بلاط قصورها، حتى أنّها ذهبت بعيداً في الظنّ أنّ أيّ إعادة إنتاج لهذه الخرائط لن يمسّها أو يمسّ وجودها، طالما أنّها خرائط لا تمسّ الجغرافيا التي تنتمي لها في شكل مباشر، حيث تعاملت بسذاجة دالّة على سطحية في التفكير والرؤية، وعلى ورطتها الكبيرة في هذا المشروع.

هذا كلام طالما قلناه وكنّا نؤكد عليه بطرائق متنوّعة ومتعدّدة، غير أنّه الآن مفيد جدّاً كي نفهم أين أصبح هذا المشروع، إذ أنّ الكثيرين منّا ما زالوا غارقين في التفاصيل، وهم لا ينتبهون إلى العمق الحقيقي لمشروع العدوان وأهدافه، وبالتالي فهم لا يستطيعون تحديد ماهية وأبعاد اللحظة الحالية للمشروع طالما أنهم غارقون بتفاصيل المشهد، وهم لم يتابعوا المشروع ذاته، في أبعاده وأهدافه الحقيقية.

كان مطلوباً الإبقاء كخطوة أولى على «المنظومة الملكية العربية» باعتبارها حجراً أساساً في لعبة الأمم الكبرى لإعادة إنتاج المرحلة الأولى من خريطة المنطقة، وكي يكتمل المشهد جيّداً فقد كان مطلوباً أيضاً أن يتقدّم «مكوّن سياسيّ» هام على خريطة الوجدان الجمعي للشارع العربي كي يشكل الضلع الرئيسي الآخر في فعل الهجوم وإعادة إنتاج الخريطة السياسية العربية للنظام العربي الرسمي، فكان «الإخوان المسلمون» أفضل أداة قادرة على تمرير هذا المشهد، من خلال العمل على تسويق مفهوم «الدولة الدينية» التي لا تعني لها الجغرافيا كثيراً، وهذا ما كان واضحاً جدّاً في ما ساقته التركيبات الصاعدة في ظلّ العدوان، لجهة الغزل المباشر مع كيان الاحتلال الصهيوني، حيث كنّا نصغي كثيراً إلى مثل هذه الإشارات الواضحة بهذا المعنى.

لم تكن رسالة «مرسي الإخواني» عادية تلك التي خاطب فيها رأس كيان الاحتلال، بلغة لم نعتد عليها، ومفردات لم تكن من ضمن الأدبيات التي تحكم وعينا الوطني والقومي لجهة هذا الكيان وتاريخه، وهذا الموقف في الحقيقة لم يكن معزولاً عن مواقف سياسية جديدة كانت تشكل منصّات عمل جديدة تقول بأنّ مرحلة بدأت ناظمة لفضاء المنطقة وثقافتها، خصوصاً تلك الرسائل الهامة التي كانت تخرج من بعض المسؤولين الذين ينتمون إلى جماعة «الإخوان المسلمين»، في كلّ من ليبيا وتونس، وهذا الدفع الكبير باتجاه تعويم ثقافة جديدة شكلت أساس وعي جديد كان يُراد له أن يحكم فضاء المنطقة سياسياً وثقافيّاً واجتماعيّاً.

لقد كانت هذه الثقافة الجديدة تحاكي أو توازي مساحة الإنجاز بنجاح العدوان في هذه الدولة أو تلك، لهذا نراه في بعض هذه الدول قد جاء خجولاً في حين أنّه جاء عاليّاً فجّاً في مكان آخر، مثال ذلك خطاب «مرسي» الذي أشرنا إليه، لكنّه كان عالياً جدّاً وفجّاً في التعاون الذي حصل بين أدوات العدوان وبين كيان الاحتلال في سورية، فقد جاء فاقعاً وهو ليس مفصولاً أو معزولاً عن خطاب كان حاضراً في مصر وتونس وليبيا، كما أنّه لم يكن بعيداً عن تقارب شديد وتنسيق عالٍ بين كيان الاحتلال وأنظمة عربية تنتمي إلى «المنظومة الملكية»، في أكثر من عنوان وأكثر من موقع!

لقد أدارت الاستخبارات العربية الملكية إلى جانب استخبارات كيان الاحتلال معركتها ضدّ الدولة السورية ومؤسساتها، وهذا لم يعد خافياً على أحد، وهي الصورة التي برّرها البعض على أنّها «نتيجة حتمية لبطش النظام السوري»، لكنّ هؤلاء تناسوا، أو أرادوا أن يتناسوا، أنّ الموقف ذاته كان يتمّ في أكثر من مكان اشتباك، أو موقع مواجهة، فالذي حصل في تونس أو ليبيا لم يكن معزولاً عن الذي حصل في مصر أو سورية، وبالتالي فإنّ المشهد السوري لجهة تعاون هؤلاء مع كيان الاحتلال كان مدروساً ورئيسياً ولم يكن مفصولاً عن الخرائط الجديدة التي كانت تعدّ للمنطقة!

إنّ التراجع الكبير الذي حصل في رئيسيات مشهد العدوان ونتائجه، مصر التي هُزم فيها «الإخوان المسلمون»، وتونس التي تتخلّص بشكل أو بآخر من تغوّل «الإخوان المسلمين» فيها، وليبيا التي سوف تكون تحصيلاً حاصلاً لجهة تراجع هذا العنوان فيها، وسورية التي كانت حجر الرحى الرئيسي في هزيمة «الإخوان المسلمين» الرئيسية فيها، كلّ ذلك يؤكد أنّ الضلع الثاني للعدوان، وأداته الرئيسية فيه، قد سقطت وسقطت الوظيفة الرئيسية التي أوكلت لها، إضافة إلى التحوّل الكبير في مشهد الاصطفاف العام للعدوان، فمن اصطفاف «أميركي أوروبي إخواني» إلى جانبه «المنظومة الملكية العربية» وهو اصطفاف حادّ جدّاً لم يكن قابلاً للاختراق أو التصدّع أبداً، إلى اصطفاف جديد يكاد يكتمل ويحتدّ كثيراً لمصلحة الروسي والإيراني ويؤسّس لمنصة تعاون لا بدّ منها، تؤدّي إلى سحب «المنظومة الملكية» التي تخلّى عنها الأميركي والذي بدأ يرتّب مصالحه على أساس آخر مختلف من حضور واصطفاف روسي إيراني صاعد جديد، وفي ظلّ تراجع كبير عن خرائط كان يتطلع إليها!

بهذا المعنى يبدو واضحاً أنّ «الربيع العربي» أضحى في مكان آخر تماماً، وهذا لا يعني بأنّ الأمة لم تصب في أهمّ خلاياها الرئيسية، وأنّه لم يلحق بها ضرر مادي أو معنوي، وهو ما كنّا قد أشرنا إليه منذ اللحظات الأولى للعدوان عليها، غير أنّ رئيسية لا بدّ من الاقتناع بها تماماً، وهي: أنّ مشروع العدوان الرئيسي، من خلال ما سُمّيَ: «ربيعاً عربيّاً»، قد سقط وأضحى وراء ظهرنا.