تضاربت الآراء بشأن خلفيّات الإنتشار العسكري الروسي في سوريا، والذي يأتي بعد أربع سنوات ونصف السنة، من إنفجار الوضع الأمني، ومن محاولات جماعات مُعارضة مُسلّحة عدّة، إسقاط نظام الرئيس السوري ​بشار الأسد​ من دون تحقيق ذلك حتى تاريخه. فماذا يقول الخبراء الدَوليّون عن هذه التحركات وعن أسبابها؟

الأكيد أنّه في الأيّام والأسابيع القليلة الماضية رفعت ​روسيا​ مستوى حُضورها العسكري في سوريا مع نشر سربين من طائرات "سوخوي"، بالتزامن مع إقامة قواعد عسكريّة لها، وإنزال بضع آلاف من العسكريّين مع التجهيزات اللوجستيّة المُرافقة لهم(1). والتفسيرات بشأن هذه التحرّكات تفاوتت بين المُحلّلين، وفي هذا السياق، إعتبر الكثير من الخبراء أنّ روسيا عازمة على حماية قاعدتها العسكريّة شبه الوحيدة خارج إطار دول ​الإتحاد السوفياتي​ السابق(2)، وأنّها مُصرّة أيضاً على توفير كل الدعم المطلوب لحماية الخط الإستراتيجي الذي فرضه ​الجيش السوري​ ميدانياً بعد نحو أربع سنوات من المعارك الشرسة، والذي بات يُعرف بإسم "الدولة السوريّة الساحليّة" والتي تضمّ 25 % من إجمالي مساحة سوريا، لكن مع وجود نحو 75 % من السكّان السوريّين فيها، و80 % من مختلف المصانع والمعامل والمواقع الأساسيّة للدولة. وتهدف روسيا من إنتشارها العسكري السريع في سوريا إلى توجيه رسائل حازمة إلى قوى المعارضة السورية بأنّها عازمة على الدفاع عن حليفها بكل الوسائل بما فيها القوّة العسكرية، وكذلك إلى دول العالم الغربي بأنّها لا تقبل بالمشاريع الرامية لفرض أيّ شروط مُسبقة قبيل إنطلاق أي محادثات تسوية، مثل تنحّي الرئيس بشار الأسد كشرط مُسبق أو ما شابه. وبموازاة دعم حليفها السوري، لم تتردّد روسيا في رفع دعمها لحليفها الإقليمي الثاني المُتمثّل في ​إيران(3).

وتُحاول روسيا أيضاً ملاقاة الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبيّة والغربيّة عُموماً، في مسألة تشكيل حلف دَولي لمُحاربة تنظيم "داعش" الإرهابي، علماً أنّ روسيا لا تُناور كما غيرها في هذا الملف، حيث تعتبره خطراً جدّياً يتهدّدها وعليها مواجهته في مهده، خاصة وأنّ جهاز الإستخبارات الروسي أحصى وجود نحو 2,000 عنصر يتحدّثون إحدى لغّات دُول الإتحاد السوفياتي السابق، يُقاتلون في كل من سوريا و​العراق​، وتُشكّل عودتهم إلى دولهم تهديداً مُباشراً وفورياً للمصالح الروسيّة.

وليس سرّاً أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ستكون له في الساعات المُقبلة كلمة مهمّة أمام ​الجمعية العامة للأمم المتحدة​ في نيويورك، إضافة إلى لقاء قمة مع نظيره الأميركي ​باراك أوباما​، حيث يُنتظر أن تحظى التطوّرات المُتسارعة في سوريا على جزء كبير من المفاوضات. واللافت أنّ روسيا كانت قد أبقت حتى الأمس القريب كل خياراتها مفتوحة، حيث لم تتردّد في إستقبال مجموعة من الممثّلين عن "المعارضات السورية"، إضافة إلى ممثّلين عن الدول التي تدعم هذه "المعارضات"، من دون أن تقوم بأي تنازل علني بشأن تمسّكها بالنظام السوري.

في الختام، يُمكن القول إنّ روسيا التي كانت بالأمس تعاني من حصار سياسي وإقتصادي دَولي بسبب الأزمة في ​أوكرانيا​، نجحت وفي فترة زمنيّة قياسيّة في الخروج من عزلتها وفي التحوّل إلى لاعب دَولي أساسي، تتطلّع الكثير من دول العالم، وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية، للتنسيق معه لتأمين الإستقرار العالمي في مواجهة تنظيم "داعش"، ولحل ​الأزمة السورية​ التي بدأت تترك آثارها السلبيّة في الكثير من الدول الأوروبيّة. لكن هذا الواقع لا يعني أنّ روسيا صارت بموقع يسمح لها بفرض شروطها للحل في سوريا على العالم الغربي، بل هي قامت بتعزيز أوراقها على طاولة التفاوض، في عمليّة يُرجّح الكثير من المراقبين على أنّها لا تزال طويلة، لأنّه حتى إذا توافقت كل من موسكو وطهران ودمشق من جهة والعالمين العربي الغربي من جهة أخرى على بقاء الرئيس الأسد خلال المرحلة الإنتقالية من التسوية السورية، فإنّ السؤال الذي يفرض نفسه: هل ستقبل دمشق بأن تحكم دويلة تمتد على ربع مساحة سوريا فقط لا غير؟! وإذا كانت لن تقبل بذلك، فمن هي الجهة التي ستُقاتل لإسترداد الجزء الأكبر من سوريا بعد أن فشل الجيش السوري والقوى الحليفة في ذلك على مدى سنوات طويلة من القتال؟

(1)بحسب المعلومات المتوفّرة حتى الساعة، فإنّ روسيا نشرت سرباً يتكوّن من 12 طائرات Sukhoi Su 25 Frogfoot، وسرباً آخر يتكوّن من 12 طائرات Sukhoi Su 24 Fencer، وذلك بعد أن توقّفت في قاعدة همدان الجويّة الإيرانية في طريقها إلى سوريا، قبل وصولها إلى مطار "باسل الأسد" في اللاذقيّة. كما قامت طائرات شحن روسيّة عملاقة من طراز An 124 بنقل أسلحة حديثة، منها منظومة صواريخ مُضادة للطيران ودبابات.

(2)القواعد العسكريّة الروسيّة تشمل حالياً الدول التالية: بيلاروسيا، جورجيا، كازخستان، قيرغزستان، مولدوفا، طاجيكستان، فيتنام، أرمينيا، والقرم (القاعدة الأكبر حالياً مع 26,000 عسكري، وفي ظلّ خلافات كبيرة مع أوكرانيا).

(3)رفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في نيسان الماضي الحظر الذي كان مفروضاً على تصدير صواريخ S 300 إلى إيران، لكنّ العدد الموعود للجمهوريّة الإسلاميّة من هذه الصواريخ ليس كافياً لإحداث تغيير في موازين القوى العسكريّة القائمة في الشرق الأوسط منذ عقود.