"الله للمُسلمين"، نعم، هو لهم وحدهم بحسب ما صدر عن وزارة الداخلية الماليزية منذ عهدٍ قريب، وبالتالي ليسَ جائزاً للمسيحيين ولا لغيرهم، أن يستعملوا كلمة "الله" في إشارتهم إلى "الله"، وفي إقامتهم لشعائر العبادة والتبشير، لِما لهذه الكلمة من خصوصيّة إسلاميّة لا تنسحب على غيرها من الديانات، على ما قاله كبير القُضاة الماليزيين ​محمد عبداني​، ومن شأن استعمالها أن يُسبب إرباكا في المجتمع، ونوعاً من الخلط في عقول المسلمين، الأمر الذي قد يؤَدي بهم إلى التحوّل عن ​الإسلام​.

إنَّ المسألة المُثارة لا يُمكن أن توضَع إلاّ في خانة الموجة التكفيريّة التي بدأت مُحيّاها تلوح في الأفق العامّ الإسلاميّ والعالميّ منذ سنوات، وتؤَسس لِمَدٍّ عارمٍ من التقوقع ورفض الآخر والإغلاق على الله في فهمها، وتعطيلّ كلّ إمكانيّة للتلاقي والحوار وقبول الآخر المختلف.

وفي ​ماليزيا​ نفسها، حيثُ مُنع المسيحيون من استعمال كلمة "الله" في كُتُبهم وكتاباتهم، وصلواتهم وعباداتهم، سُئل مفتي سوريا الشيخ ​أحمد بدر الدين حسون​، والكلام على ذِمّة الناقل، في مَعرض حديثٍ له: "هل يَحقّ لغير المسلمين أن يستعملوا كلمة "الله"، فأجاب سائله قائلاً:

هل أنتَ مُسلِم؟

أجاب: "نعم والحمد لله".

قال: "كم مرَّةً تُصلّي في اليوم؟"

أجاب: "خمس مرّاتٍ يا مولانا".

قال: "وكيف تبدأ صلاتك"؟

أجاب: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله ربّ العالمين".

قال:" هل تؤمن بأنَّ القرآن الكريم هو كلام الله؟"

أجاب: "بالتأكيد أؤمن".

قال: "إذا كان الله في القرآن الكريم، وفي مواضع عديدة، يقول لنا إنَّه هو ربُّ العَالمين، فَمن نحنُ لنُكذّبَ صِدق الله ونقول إنَّ الله للمُسلمين؟!"

يُصلّي المُسلم خمس مرّات في النهار، ويَحمَد "الله ربّ العالمين" خمسَ مرَّات في نهاره. وكلمة "الله" ليست إسم عَلَم، وفي أصولها البعيدة تعود إلى كلمة "إلوهيم" العبريّة، وتعني "الآلهة" ومفردها "إيل" أي "إله" أُدخلت عليها "أل" الإدغام للتفخيم والتعظيم والتبجيل، وحُذفَت منها الهمزة فأصبحت "الله". وكلمة "ربّ" في القاموسَين الإسلاميّ والمسيحي تعني الله بشكلٍ مباشَر، وعندما تَقترن بعبارة "العالمين"، يُقصَدُ بِها كلّ ما سَوَّى الله من مخلوقات؛ فهو واجدها ومربيها ومالكها ومدبّر أمورها، وهو خالق المنظور وغير المنظور، ما يُرَى وما لا يُرى.

صحيحٌ أن مفهوم الله يختلف في الديانتين ​المسيحية​ والإسلامية من حيث اكتماله في تجسّد الإبن في المسيحية، ولكنَّ الصحيح أيضاً هو أنَّ الله يبقى الله في الديانتين،لا بل في كلّ الديانات، وأنّنا كُلّنا نتشارك في وحدة المَصدَر ووحدة المصير، فالله هو المبدأ والمُنتهى، منه كُلُّ شيء وإليه كُلُّ شيء، وبالتالي ليس بإمكانِ أحدٍ الإستئثار به وتملّكه والحجر عليه في جغرافيّته الفكرية ومساحته المادية الضيّقة.

الله حقيقة تستوعبنا كلّنا، وليس بمقدور أيّ فردٍ أو جماعةٍ أو دينٍ أن يستوعبها كلّها. إنّه المُحيط الذي تُصَبُّ فيه البشرية كلّها على اختلاف مآربها ومشاربها وعقائدها. لذا فأمام هذا الواقع المُتفلِّت من عِقال العقل المؤمن إيماناً مُستقيماً، والذي يسعى إلى تَمَلُّك الله والإستئثار به والحجرِ عليه في بوتقَةِ الفكر المهترئ، لا بُدَّ من إعلان هدنة مقدّسة يتوقّف فيها البحث عمّا إذا كان الله للمسلمين أم لغيرهم، ويُصارُ فيها إلى العمل على رسم استراتيجيّة البحثِ عن المساحة المشتركة التي تجمع كلّ الديانات، لا بل كلّ الشّعوب، لِتقدر من خلالها أن تبنيَ سويةً حضارة التلاقي والحوار، وهذا الأخير ليس "خياراً إضافياً" بتعبير ​البابا فرنسيس​، "بل ضرورة يتوقّف عليها مستقبل البشرية". وتتحقّق الإستراتيجيّة هذه، في الإنتقال من "الإيمان المَعرفيّ" الذي يهدف إلى تملُّك الله والإقفال عليه، والذي هو في أساس نشوء الأصوليات التي تُصادر الحقيقة، إلى "إيمان المحبّة" الذي يُقرّبُ الإنسان من الإنسان، ويُوَلِّدُ عنده الرغبة في معرفةٍ أفضل للآخر، لأنّه ينطلق من قوّة المحبّة التي تُميّزُ الإنسان المخلوق على صورة الله المحبّة، خالق جميع الناس ومُعطي جميع الناس الكرامة نفسها والمساواة الكيانية نفسها والحقوق الطبيعية نفسها، وأوّل هذه الحقوق، الحقّ في المعتقد، ويتجلّى في كلِّ انتفاضة على الظلم، من أيِّ نَوع كان، لكي يعود هذا الإيمان إلى الله. وليس أفضل من كرامة الإنسان وكلّ ما يتعلّق به مادّة دسمة تستطيع البشرية، إن شاءت، التحلُّق حولها على ضوء وحدانية الله خالق كلّ مخلوق وخالق الإنسان.

في الواقع، وحدها استراتيجيّة المحبّة قادرة على أن تولّد التاريخ والإنسان في هذا الشرق وفي العالم كلّه، فحيثُ تكون المحبّة يكون الله الحقيقي. "أتساءل، والقول للطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني، إن لم يكن الوقت قد حان، وخاصة اليوم وقد دخل المسيحيون والمسلمون في مرحلة جديدة من التاريخ، لتعزيز الروابط الروحية التي تربطنا، كي نسعى سوية لحماية المبادىء الأخلاقية، السلام والحرية"، وهو ما أعاد البابا فرنسيس التأكيد عليه والتذكير به في زيارته الأخيرة إلى تركيا حيث دعا إلى حوار يُعمّق المعرفة ويُثمّن كل القواسم المشتركة فيما بين المسيحيّة والإسلام، ويُعمَل من خلاله على الالتزام ببناء سلام صلب يرتكز إلى احترام الحقوق الأساسية والواجبات المرتبطة بكرامة الإنسان.

أن يكون الله للمسلمين وحدهم، أمرٌ لا يَقدِرُ عليه الله، لأنّه، في الحقيقة، ربّ العالمين.