ضمنيًا لن يكون التريُّث المذيّلة به الحكومة الغائبة عن السمع هو عنوان الذريعة التي سيتسلّح بها الرئيس تمام سلام ليُعلنَ أن موضة "المصلحة" الوطنية بطُلت وباتت رجعيّة في حسابات الرابية. لم يكن من كلامٍ أكثر وضوحًا من ذاك الذي ارتقى به العماد ميشال عون أمس الأوّل عندما وجّه صفعته المباشرة لحكومةٍ هو شريكٌ "شكليٌّ" فيها: ما كان يجب أن تُعمِّر الى هذا الحدّ.

ربّما كان عون من المعوّلين على قصر عمر الحكومة من باب يقينه المُسبَق بأن التجانس المبحوث عنه لن يجد صراطه المستقيم في جلسات يعايشُ أبطالها ذروة التنافر، وما كان ينقصها عدا الملفات المعيشيّة والرئاسة الشاغرة والصلاحيّات المتنازع على دستوريّتها سوى التعيينات التائهة على إيقاع سقوط تسوية الترقيات في حوارٍ لن يعيش طويلاً هو الآخر.

فهم الرسالة...

ليس تمام بكّ ابن اليوم أو الأمس. فهم الرجل الرسالة على ما تقول مصادر حكوميّة لـ”صدى البلد”، فهم أن تطيير التعيينات ومعها تسوية الترقيات سيصعّب المهمّة عليه من باب أن عون لن يسكت عمّا حصل لا سيّما مع حرمان صهره العميد شامل روكز من الترقية ومع اتخاذ قرارٍ إداري غداة جلسة الحوار الأخيرة بتعيين مارون القبياتي خلفًا له. وبالتالي، عرف الجميع أن الحكومة ستكون مسرحًا لانتقام عون مما يعتبره “جورًا” في حقّه وفي حقّ تمثيله. علمًا أن الأخير يعي أيضًا خطورة ترك الحكومة بلا انعقاد لا سيّما على مستوى تسيير شؤون الناس وعلى رأسها ملف النفايات الذي شارك سلام ليل أمس في اجتماعٍ مخصّص له، ناهيك عن أن الحكومة هي المؤسسة الوحيدة الحيّة في لبنان بعد استمرار شغور الرئاسة وشلل البرلمان، وفوح رائحة مقاطعة الرابية لحوار البرلمان. كلُّ ذلك قد يدفع عون الى مراجعة حساباته، ولولا ذلك لكان استقال من الحكومة منذ زمن”.

قلقٌ وحذر

قالها عون أخيرًا: نعم نعطّل. إعترف الرجل بحنكةٍ بأنه من معطلي “قراراتهم العاطلة”. فهم سلام أيضًا أن أيّ جلسةٍ سيشارك فيها العماد إنما سيُكرِّمه بحضور وزرائه وسيضنيه بتعطيل كلّ ما ستخلص اليه الجلسة من مراسيم ومشاريع. تريّث رئيس الحكومة، أغلب الظنّ وضع تريّثه في خانة النفايات الى حين انجلاء الصورة من الاجتماعات المتعاقبة، وتحديدًا أزمة مطمري البقاع وسرار. والى حين طفوّ الحلول شبه النهائيّة على سطح الاجتماعات الهامشيّة قبل أن تطفو النفايات في الشوارع، يبدو سلام قلقًا وحذرًا كما ينقل عنه بعض زوّاره في الآونة الأخيرة: قلقٌ لأن الشتاء على الأبواب والحلول لم تنضج بعد بما يدفعه الى “المغامرة” في الدعوة الى جلسةٍ حكوميّة، وحذِرٌ لأن التزامات لبنان الماديّة والفرص المُتاحة لاقتناصها تكسر ظهره في ظلّ اللاالتئام.

مجرّد مناورة؟

ليس سلام في صدد المكابرة عندما يؤكد أنه مستعدٌّ لفرط عقد الحكومة متى بات التئامها بهدوءٍ وسلام عصيًا عليه وعلى أبنائها. ومع ذلك، يقرأ كثيرون من وزراء 8 آذار في موقفه ذاك مجرّد مناورةٍ استنادًا الى حقيقتين: أولاً، وعي سلام الى خطورة الوضع وبالتالي عدم إقدامه على التلويح حتى بورقة الاستقالة. وثانيًا، قرار الاستقالة وإنهاء عمر الحكومة ليس في يده ولا في يد أيّ طرف داخلي بذريعة أن الأرحام الخارجية التي ولدت الحكومة وحدها قادرة على إجهاضها، لا سيّما بعدما ثبُت لوزرائها قبل المراقبين عن بُعد أنها ما زالت جنينًا لم يخرج الى النور وبالتالي قد يكون قتله ما زال يندرج في خانة “القتل الرحيم”.

تساؤلان...

هذا في المصيطبة، أما في الرابية فليس هناك كثيرٌ من الكلام ليُقال بعد ما صارح به الجنرال جمهوره وجميع اللبنانيين بلا مواربات أو ترميز. البرتقاليون مقتنعون كلّ الاقتناع بأن الحكومة ما عادت مجدية طالما أنها باتت عاجزة عن إنهاء ملفٍّ واحد وما الرئاسة والآلية والنفايات وأخيرًا التعيينات سوى خير دليل على ذلك، فما فائدتُها إذاً؟ ذاك التساؤل العوني يقابله تساؤلٌ من بعض المصادر الوزاريّة المقرّبة من سلام والمستقبل ومفادُه: لمَ لا يرحل الجنرال عن الحكومة طالما أنه مقتنعٌ بلاجدواها؟ يقول التاريخ القريب الذي تكتبه الرابية في السلطة منذ مرحلة ما بعد عودة العماد عون إنّ من شرب بحر تمديدين نيابيّين واستحمل تمديداتٍ أخرى بالجملة لن يغصّ في تمديد عمر حكومةٍ عاطلة من العمل تحت العنوان-القناعة نفسه: لا نترك الحُكم لمن يعيث فيها فسادًا واستئثارًا وعشوائيّة. هو السبب نفسه الذي ردع النواب البرتقاليين عن تسليم مفاتيح مكاتبهم في مجلس النواب الى رئيسهم، يردعهم اليوم عن اتخاذ قرار الرحيل، بالترافق مع ضغطٍ من الحليف الشيعي (حزب الله) الذي يمون حتى الساعة على عون بألا يترك كلّ شيء وراء ظهره ويرحل في ظروفٍ مماثلة ثبُت أن لا بديل مثاليًا لها، وليس فشل المجتمع المدني في تقديم مشروعٍ واضح سوى أقوى الشواهد.

كيديّة صريحة

لا جلسة قريبة. كلٌّ يضع لها عنوانًا مختلفًا. فبعد غد يغادر شامل روكز منصبه. وبعده بأيام تنعقد طاولة حوارٍ جديدة ستُقتَل فيها التسوية مرّتين بسكينين باتا معروفين بالنسبة الى أبناء الرابية. ربما يستفزّ سلام الجميع بهدوئه وهو الذي لا يتردّد يهمس في آذان مقرّبيه بأن خيار استقالته بعيد وغير مطروح. استفزازٌ مردُّه الى اتخاذ ملف النفايات رغم أهميته القصوى شمّاعة لجرّ القدم الى مجلس الوزراء والظهور في هيئة المتجاهل لباقي الملفات على جوهريّتها هي الأخرى وعلى رأسها التعيينات. هنا بيت القصيد بالنسبة الى الرابية التي تقرأ كيديّة صريحة في التعاطي معها، وهو ما دفع عمادُها الى مصارحة كوادره في أحد الاجتماعات الأخير على ما علمت “البلد” وأراد مما قاله أن تصل الرسالة واضحةً الى من يغتبط بمحاربته على كلّ الجبهات: ما كنتُ أقبل به الأسبوع الماضي لن أقبل به اليوم ولن أرضى بأقل منه الأسبوع المقبل ولن أسمح بأن يُطرح عليّ بعد شهر.

نضوج ظروف الاستقالة؟

فيما تتمسّك الرابية بسيناريو “محاربتها من الجميع”، يتمسّك “المستقبليّون” وطابخو “سُمّ” إسقاط تسوية الترقيات بالضرب على وتر تعطيل عمل الحكومة من قبل وزراء تكتّل التغيير والإصلاح ومعهم حزب الله أخيرًا، وربّما وليد جنبلاط قريبًا وهو الذي يعيد فتح طرق الجليد مع الرابية بجرافات الترقيات. في النتيجة، لا جلسات قريبة بذرائع مختلفة: فسلام مقتنعٌ بأنه حاجة وبأن أيًا من الوزراء الـ24 لن يجرؤ على الرحيل، والرابية مقتنعة بأن سياسة النكائيّة التي يتعاطون بها مع ممثل المسيحيين الأول بإثبات البرلمان أولاً والشارع أخيرًا لن تنتصر على الاعتكاف... أقلهّ الى حين نضوج ظروف الاستقالة الجزئيّة أو الجماعيّة.