ذاك الشارع، أو الزقاق، أو الزاروب، سمّه ما شئت... مليء بصور شهداء ما قبل «التحرير». يعني، ما قبل تحرير جنوب لبنان وبقاعه الغربي من الاحتلال الإسرائيلي. آباء وأمهات وزوجات وأبناء أولئك الشهداء، الذين دحروا الإسرائيلي، عدوّ «الأمّة» (كما يُقال)... هم الذين فُري لحمهم أمس. هم الذين يعيشون هناك. أحد أكثر شوارع برج البراجنة، بل الضاحية، ازدحاماً. سوق شعبي. بساطة. فقر.

ضجيج. بيئة مهملة، صحيّاً واقتصادياً واجتماعياً وإنمائياً وبيئياً، إلى حدّ يلامس العدم. الداخل إلى ذلك الشارع، لأول مرّة، يقول: كيف لهؤلاء أن يحتملوا العيش هنا! لا شي يشفع عند «الوحش». انتحاري يكفيه للقتل أن فريسته من «الرافضة»... ولو كانوا غير محاربين! بل يكفي أنهم يعيشون، إن كانوا من غير ملّة، في منطقة يوجد فيها «رافضة». مشهد ينضح بالكثير من التفاهة الوجودية. شيء من قبيل من فوق القرف.

ذاك الشارع الذي، على مدى أكثر من ثلاثة عقود، كانت تدوّي فيه صرخة: «الموت لإسرائيل». عشرات الشهداء، بل مئات، العائدين من جنوب لبنان، كانت تمر نعوشهم والمواكب من هناك. هناك، تحديداً، كانت تُسجّى أجساد الشهداء، للصلاة عليهم، وإقامة مراسم الوداع، قبل حملهم إلى روضات الضاحية والمناطق. جثمانا الشهيدين ربيع وهبي وحسين مريش، قبل 19 عاماً، سُجّيا هناك. خاضا مواجهة مع مجموعة «كوماندوس» إسرائيلية في سهل عقماتا، استشهدا. صورتاهما الآن في ذلك الشارع، للذكرى، ولعل بعض شظايا جسد «الوحش» قد طالتهما. هناك تسكن عائلة الشهيد عباس خريباني، الراحل قبل 16 عاماً، وصورته في الشارع أيضاً، وما كان عباس يظن يوماً أن ينتقم غير الإسرائيلي منه، ومن الشارع الذي عاش فيه، فإذا بظنّه يخيب. في هذا العالم من الوحشية، واللامعقول، أكثر مما كان يمكن لأولئك الشهداء الأنقياء أن يستوعبوا. تلك البيئة، ذلك الشارع، حيث تم إتقان صناعة أسلوب حياة أفضى في النتيجة إلى إفهام الإسرائيلي أن ها هنا: «عرب من نوع آخر». من هناك، من شوارع برج البراجنة، وذلك الشارع تحديداً، خرج شبّان من نوع نادر أذاقوا الصهاينة ما لم يذوقوه على يد أحد آخر... على الإطلاق.

في ذلك الشارع كانت «حواجز المحبّة» تقام، مباشرة، بعد كل عمليّة فدائية في فلسطين. كان حزب الله يقيم تلك الحواجز. يوزعون الحلوى ويشعلون أصوات الأناشيد الحماسيّة. المكان التقليدي لتلك الحواجز، تحديداً، قرب النادي الحسيني، أي تحديداً في المكان الذي ضربه «وحش وهابي». مفارقات هائلة في المشهد. مؤلم؟ قل أكثر. كان يمكن متابعة أخبار الانتفاضة الفلسطينية الثانية، على مدى سنواتها، من خلال رصد تفاعل ذلك الشارع فرحاً وابتهاجاً... وحزناً. مسجد الإمام الحسين، حيث كانت تجهّز في داخله رايات فلسطين، خلال السنوات الماضية، هناك عند مدخله وقع الانفجار الثاني أمس. ما الذي يحصل؟ كثيرون يقتلهم الآن هذا السؤال... خاصة من أبناء الرعيل الأول في المقاومة. لكن، وبفضل عقل حكيم تُحبّه تلك المنطقة، هو قائدها، بقيت وتبقى فلسطين، القضيّة المجرّدة، هي ذاتها وفوق كل زواريب مهزلة اللحظة التاريخية. هذا ما يؤمل.

برج البراجنة أكثر من مجرّد قرية. أبناء الجنوب والبقاع، الذين ولدوا فيها، وعاشوا ويعيشون فيها، يزيدون على أبنائها الأصليين. كلّهم من «البرج». لطالما كانت روح الضاحية الصاخبة وخزّان شهداء المقاومة. لم تبخل «شعبة الشمالية» سابقاً، وآنفاً، في صنع «الأشاوس» من المقاومين. ما حصل فيها، أمس، ليس جديداً عليها. لطالما كانت على موعد مع مواكب الشهداء. كثيرون هناك قالوا، أمس، لا بأس. من يعرف تلك البيئة، عن كثب، ويفهم أهلها وناسها، كبارهم وصغارهم... يعرف أن ما حصل سيدفع من لم يهتف لحزب الله سابقاً، لأي سبب كان، إلى أن يهتف له الآن، وأن يدعوه إلى مزيد من المواجهة، وإلى مطاردة أعداء الشمس إلى ما وراء الشمس... ولا مكان للتراجع.