كما جرت العادة؛ دائماً ما يتأخّر السّاسة في ​لبنان​ بفهم ما يجري في المنطقة، ودائماً ما يَفهمُ كلُّ فريقٍ الوضع من منطقه الخاص الذي تشوبه الطائفية والحزبية والارتهان للجهات الاقليمية الداعمة له، فيما تسيل دماء الشعب اللبناني - لوأد الفتنة التي تُطلّ برأسها مهددة بتدمير الوطن بجميع مكوناته.

كان المشهد في لبنان بعيد التفجيرين الارهابيين اللذين ضربا الضاحية وطنياً بإمتياز، ففي حضرة الشهداء، لا مكان للتخوين، ولا لتصفية الحسابات. وكأنّ الموقفَ السياسي كان موحداً وممنهجاً بعدما فَهِمَ الجميع ان القرار باستهداف لبنان-الذي تمّ تحييده عن الحروب الدائرة في المنطقة قد إتُخذ.

قد لا يختلف إثنان؛ وخصوصاً بعد موجة التصريحات وردود الفعل الدولية الواسعة وغير المسبوقة في مثل هذه الاعتداءات؛ ان انفجار "برج البراجنة" لن يكون يتيماً وللاسف. فمهما نأى لبنان بنفسه عن الاحداث في سوريا؛ لن ينأى عرّابو الشرق الاوسط الجديد بلبنان-الشاهد الاول على هذا المصطلح في عدوان الـ2006- الذي كان وما زال رئة هذا الشرق.

وبنظرة سريعة على المواقف الداخلية المعلنة بعد مجزرة​برج البراجنة​، ظَهر جَلياً الالتحام الوطني الذي كاد ينساه اللبنانيون لنُدرته، وكان الوطن كُلّه، وبكلِ مكوناته، يقف في صفوف المعزّين. ولكن اللافت في التصريحات التي دانت وشجبت الاعتداء على الضاحية هو حجم الخوف والارتباك والضياع الذي راح تارة يربط التفجير بالجلسة التشريعية وطوراً بالدعوة لتسوية وطنية، فيما غاب اي تصريح يربط الاعتداء بتدخل "حزب الله" في سوريا في سابقة تؤكد ان الوحدة الحالية ليست حالة، بل حاجة، فَهِمَ أرباب السياسة اخيراً انها ضرورية لبقاء الوطن.

كل التحليلات ذهبت لربط تفجيرات الضاحية بمحاولة التفجير التي نجا منها "جبل محسن" في الشمال اللبناني -بفضل جهود القوى الامنية- والتي كانت تسير بنفس السيناريو وتحمل نفس البصمات من ناحية التنفيذ، فيما لم يذكر احد التفجيرين الاخيرين في "عرسال".

كان على اللّبنانيين ان يَفهوا مُنذ التفجيرين في عرسال بان قرار إدخال لبنان في الحرب الدائرة في المنطقة -كورقة ضغط- قد دخل حيّز التنفيذ. فعرسال وجرودها خصوصاً، هي المعقل الاخير لـ"داعش" واخواتها على الحدود اللبنانية السورية التي دأب "حزب الله" وخلال اعوام على تأمينها من القصير شمالاً الى الزبداني جنوباً. ورغم الاعتداءات المتكررة على الضاحية والبقاع الشمالي، لم يتدخل "حزب الله" في عرسال تفادياً للفتنة؛ فخاض معارك القلمون لفصل البلدة وجرودها عن الداخل السوري، فيما تولى الجيش اللبناني امر التنظيمات الارهابية المسلحة فيها.

يعلم المسلحون ومِن خَلفهم مُشغلوهم أنّ عرسال تُعدّ ساقطة عسكرياً، كما ويعلم كل من له خبرة في الميدان الامني والعسكري ان المنطقة المذكورة وجرودها ومسلحيها لا يشكلون حتى نواة تهديد للداخل اللبناني بعد العُزلة والحصار المُطبق المفروض عليها. ولكن التهديد الوحيد الذي تستطيع عرسال تنفيذه هو التهديد الانتحاري بحيث صارت خيارات الارهاب فيها شبه معدومة. وهذا لا يعني ان العبوات والاحزمة في طرابلس والضاحية آتية من هناك.

بل ان ما حصل في الضاحية والشمال هو خطوة اولى لمحاولة إشعال المخيمات من "عين الحلوة" الى "برج البراجنة" بالتزامن مع اشعال محاور "التبانة" و"جبل محسن"، في محاولة لاشغال الجيش اللبناني داخلياً، فيما يُشعل المسلحون الجبهة العرسالية لتكون العمليّة الانتحارية التي تستدرج "حزب الله" للتدخل لحسم المعركة واسقاطها، وبذلك يكون العمل جاريا على اذكاء نار الفتنة "السنية-الشيعية" التي ستفجّر الداخل اللبناني ليصبح اكثر تعقيداً ولتفتح الباب امام سيناريوهات من الصعب جداً التكهن بها في حال لم يُؤمّن الغطاء السياسي للجيش اللبناني لاخماد هذه الفتنة في مهدها.

ربما قد يختلف اللبنانيون على تحديد الموقف ورسم المسار، ولكنهم اتفقوا على خطورة المشهد وضرورة الوحدة.

فهل سيتغير هذا المشهد الوحدوي، ام ان الحسّ الوطني الحالي ستطغى عليه حسابات حزبية واقليمية؟!