منذ قرابة الشهرين بدأت تتظهّر حياكة مشروع التسوية السياسية لحل الأزمة اللبنانية. كان "التيار الوطني الحر" مشغولا برسائل "النوايا" بين الرابية ومعراب، في ظل حسم رئاسته الجديدة. زادت تلك "النوايا" المعلنة والمبيّتة من إبعاد "المردة" عن "التيار الوطني الحر". كانت نقاط أمين سر تكتّل "التغيير والاصلاح" "رجل النوايا" النائب ابراهيم كنعان تزداد عند الفريقين. هو بات جسر عبور سلس بين "القوات" و"التيار". تلك المهمة رفعت من رصيده السياسي لقدرته على تدوير الزوايا. الامر لا يستطيع فعله رئيس "التيار" وزير الخارجيّة جبران باسيل. لذلك، هناك من همس بإسم كنعان سراً كمرشح مقبول للرئاسة يحظى ببركة "القوات" ايضاً، بعدما نال ثقة "الحكيم".

السيناريو داخلي صرف، يُضاف الى سلسلة سيناريوهات استحضرت في الأشهر القليلة الماضية اسماء عدة منها: اميل رحمة، شكيب قرطباوي، شامل روكز وآخرين.

لكن قلة من القيادات اللبنانية كانت تعرف ان أفكاراً عملية يجري التداول بها دولياً حول الرئاسة اللبنانية، من باريس الى طهران مروراً بالفاتيكان والقاهرة والرياض وبمباركة أميركية لامست الاسماء المرشحة جدياً للرئاسة. الإيرانيون رموا مجدداً الكرة في ملعب "حزب الله" لتبني ما يراه مناسباً، رغم اشاراتهم الإيجابية رداً على طرح "تسوية تحييد لبنان عن صراعات المنطقة". اساساً لـ"حزب الله" مصلحة كبرى بالارتياح الداخلي.

القاهرة وواشنطن سوّقا اسم النائب ​سليمان فرنجية​ لدى السعوديين والفرنسيين، على اساس تأمين التوازن السياسي في لبنان وتكريس عودة النائب ​سعد الحريري​ الى رئاسة الحكومة كجزء من عامل التوازن المذكور.

هذه الوقائع لم تمنع من طرح اسماء على طاولة البحث الرئاسي: وزراء سابقون وقيادات عسكرية وسفراء وموظفون من الفئة الاولى والمراكز الحسّاسة.

كان السفير الأميركي السابق ديفيد هيل دعم بقوة خيار فرنجية في الاروقة الاميركية، كرئيس يتيح فرض التعايش السياسي بين فريقي "8 و14 اذار". جرى استطلاع الرأي الدولي ورُصدت المؤشرات الإيجابية حوله بين الأضداد.

العواصم المعنية كانت تأكدت من وجود "فيتو" سني على اسم رئيس تكتّل "التغيير والاصلاح" العماد ميشال عون، رغم انه زعيم الأغلبية المسيحية، فـ"الجنرال" لا يحظى عملياً الاّ بتأييد "حزب الله" فقط، و"فيتو" شيعي على اسم رئيس حزب "القوات" ​سمير جعجع​، الذي بالكاد تؤيده كتلة "المستقبل" في حال كانت صدقت معه، وعدم قبول فريقي النزاع بالرئيس السابق ​أمين الجميل​ من دون اسباب محددة. كان الخيار الوحيد تسويق فرنجية كمرشح من الاربعة المعترف بهم أقطاباً، وتنطبق عليهم "مواصفات" الترشح.

الإشارات الدولية الإيجابية نفسها كانت باركت انعقاد الحوار الثنائي او الجامع في لبنان برعاية رئيس المجلس النيابي نبيه بري. تسابقت حينها نفس العواصم بالإشادة بخطوة الحوار. يومها استغربت قوى سياسية كيف تنازل تيار "المستقبل" عن شعاره الشهير حول انسحاب "حزب الله" من سوريا.

القرار الدولي نفسه كان تُرجم ايضاً بمؤازرة تسليحية-استخباراتية للقوى العسكرية والامنية، بتأمين ذخائر أميركية دفاعية للجيش في جرود السلسلة الشرقية في عرسال ومحيطها. ثم كرّت سبحة التدابير الأمنية اللبنانية وإلقاء القبض على شبكات إرهابية خطيرة ولا زالت.

كلها عوامل مترابطة مع بعضها. بعد التفجيرين الإرهابيين في برج البراجنة في الضاحية الجنوبية لبيروت ظهر تماسك لبناني، ومواقف لافتة لتيار "المستقبل" رصدها "حزب الله". كان الحزب يعلم جيداً بما يجري على صعيد طرح المبادرات للحل اللبناني. من هنا جاءت إشارة الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله للتسوية الشاملة.

أساساً فرنجية كان ينسّق مع الحزب و"حركة امل" ودمشق بتفاصيل المشاورات الجارية عن بعد مع الحريري. كان التنسيق قائماً حول كل تفصيل، حتى جاء موعد اللقاء بين زعيم "المردة" ورئيس "المستقبل" في باريس بمباركة العارفين.

بالنسبة للمطلعين على مسار مشروع التسوية، "كل ما قيل عن ترشيح الثلاثي بري-الحريري-جنبلاط لفرنجية ينمّ عن جهل بالحقائق". المسألة أبعد من "سطحية هذه المقاربة".

المطلعون أنفسهم واثقون من عمق التسوية، بدليل طرح اسم فرنجية بين العواصم الإقليمية منذ أسابيع قبل لقائه بالحريري، وصولاً الى رمزية اتصال الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند بفرنجية. ثم جاءت خطوة ​بكركي​ من خلال مواقف البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي والمطارنة الموارنة لتقطع الشك باليقين.

على هذا الأساس وضع زعيم "المردة" ترشحه بتصرف بكركي. هو سمع كلاماً ايجابياً من الراعي، سبقته رسائل بالجملة من المطارنة الموارنة -بعيدا من الاعلام- تبارك ترشحه.

سؤال محوري انطلقت منه البطريركية: هل هناك بديل من فرنجية؟ فلنبحث به. هل يحظى اي بديل بتوافق جزئي او عام على اساس وطني؟ الجواب: لا يوجد.

بالنسبة الى بكركي لا يجوز استمرار الشغور الرئاسي. فكانت خطوة زعيم "المردة" تجاه البطريركية مهمة. هو أعاد لها بريق المكانة بشأن الرئاسة الاولى، والوهج لاتخاذ موقف ماروني نهائي حول الرئاسة، بعدما غيّب الشغور هذا البريق والدور في ما يتعلق ببعبدا.

ان قرار البطريركية المارونية سيشكل العامل الفيصل. في حال تأييد خطوة فرنجية، يعني فرض تغطية مسيحية لوصوله الى كرسي الرئاسة، وفي حال معارضته يعني سحب فرنجية لترشحه من التداول وإعلان فشل التسوية. عندها لا توحي المعطيات بالاتفاق على اسم بديل. قد يمتد الشغور اكثر من عمر ولاية الرئاسة.

بالعمق ثمة تباين بين الرابية ومعراب من جهة، والبطريركية المارونية من جهة ثانية، انطلاقاً من أولوية كل فريق. قد يكون القانون الانتخابي هو الحجة لرفض انتخاب زعيم "المردة".

قوة ترشح فرنجية تكمن بأن لا بديل عنه في قوى في "​8 آذار​" يمكن ان يحظى بموافقة "المستقبل" او "التقدمي الاشتراكي" او شخصيات مستقلة او تنتمي لقوى "14 آذار". الخيارات معدومة، ما يعني ان البديل هو مرشح مستقل، او لا يحظى بأي ثقل سياسي وتمثيلي. هذا ما لا يناسب المسيحيين ولا "حزب الله" على وجه التحديد. هم بحاجة في "التسوية الشاملة" الى شخص موثوق به.

الإحراج الشديد يصيب الحزب بسبب التزامه السياسي مع عون، علماً ان المطلعين يقولون ان "دائرة ضيقة جداً في الحزب تعلم بتفاصيل ترشيح فرنجية"، ما يعني ان كل ما يجري تسويقه عن ان الحزب لا يقبل بفرنجية رئيساً لا اساس له من الصحة.

في حال تبنت بكركي طرح فرنجية، سيسهل الامر على كل حلفاء زعيم "المردة" الذين يخفون حتى الآن تبني هذا الترشيح، كي لا يؤدي الامر الى إغضاب "الجنرال". ستتدرج بعدها الكتل بإعلان التبني.

دمشق تقيم من جهتها توازناً بين "المرشحين الاثنين"، علماً ان فرنجية هو على تواصل مستمر مع الرئيس السوري بشار الاسد الذي كان زاره في الشام منذ شهرين تقريباً اثناء "بدء حياكة خيوط التسوية"، ويعتبر "البيك" علاقته بالأسد عنصر قوة. وهذه حقيقة ستظهرها الايام ان وصل فرنجية الى بعبدا.