"جميع الناس يحلمون وهم يضعون رؤوسهم على المخدة عند المساء. بعضهم يفكر بفتاة أحلامه، وآخرون يطمحون الى مستقبل افضل، اما تجار الحشيشة فيحلمون باساليب جديدة لتصدير انتاجهم". هي شهادة حية من أحد التجار اللبنانيين، ممن امتهنوا هذه الزراعة منذ اكثر من 50 عاماً. فالشاب الذي تعلّم الصنعة، ممن سبقوه، بات معلّماً في فنون زراعتها وتخزينها وتسويقها الى خارج لبنان.

في العام 1900 وصلت الحشيشة الى لبنان. ومنذ ذلك الحين، تلجأ شريحة غير قليلة من البقاعيين اليها لتأمين لقمة عيشها. ففي ظل غياب الدولة بانمائها ومؤسساتها وتقديماتها، لم تترك للعديد من أبناء القرى البقاعية غير هذه الوسيلة، إن في الحرب او في السلم. وهكذا، انصرفت عائلات بأكملها الى الاهتمام "ببترول لبنان"، بحسب الوصف الذي يردده العديد من أبناء البقاع في مجالسهم، متناقلين اياه من على لسان رئيس الجمهورية الراحل كميل شمعون في خمسينيات القرن الماضي. وتكاد لا تسمع اسم شمعون الاّ مقروناً بأمنية "الله يرحم ترابو" يوم كان السهل الممتد من القرعون وحتى القاع يشكّل اهراءات لبنان من خيرات الحشيشة.

هكذا كانت المعادلة اذاً منذ عقود ولا تزال اليوم في العام 2015: تغيب الدولة فتحضر زراعة الحشيشة. ينثر كل صاحب ارض بذوره في شهر آذار من كل عام، ليحصد المحصول قبل أيام من بداية فصل الخريف في منتصف أيلول، تمهيداً لسحب الغلّة الى الظل، حيث تغربل وتحضّر للبيع. هي المرحلة التي ينهمك فيها المزارعون هذه الايام في مخازنهم التي يقع بعضها بين المنازل البقاعية.

في سنوات الحرب كان كل 1200 غرام من الحشيشة اللبنانية يباع بحوالي ال1500 دولار أميركي. اما اليوم، وفي ضوء التطورات الأمنية على طول السلسلة الشرقية، في ظل انتشار النصرة وداعش، كثر الإنتاج وقلّ تصريفه، فانخفضت الأسعار الى حدود المئتي دولار لكل "هقّة" وهو التعبير المستخدم للاشارة الى كل كيلو ومئتي غرام من الحشيشة.

"كنا نمسك الحشيشة يطلعلنا ذهبا"، يقول احد قدامى التجار. ويروي كيف كان يسدد قسط أبنائه الخمسة في المدرسة الخاصة دفعة واحدة، الى أن تخرجوا من الجامعات وباتوا قادرين على اعالة انفسهم. فالدولة غابت عن البقاع، كما يقول، وتركت الناس "يدبروا راسن"، فكانت زراعة الحشيشة ملاذهم الوحيد. اليوم تغيّرت الأوضاع، ولكن الحشيشة تبقى وفيّة لزارعها، اذ لا تفسد سريعاً مثل البطاطا والتفاح وسائر الفواكه والخضار.

لذلك، وعلى الرغم من انخفاض الأسعار وصعوبة طرق التصدير في ضوء التطورات الأمنية في سوريا، لا خوف لدى التجار من كساد الموسم. فجودة الحشيشة، وفي حال تخزينها جيداً، تدوم بين الخمسة والعشرة أعوام. لذلك، سيخبىء التجار بضاعتهم الجيدة الى ان يحين وقت إخراجها من مخابئها عملاً بالمثل الشائع "خبّىء قرشك الأبيض ليومك الأسود".

نصف مليار دولار سنوياً

في الارقام، تشير الابحاث الى أن حجم مردود الحشيشة في لبنان كان يصل سنوياً الى حوالى نصف مليار دولار. وكل جرام حشيشة من إنتاج لبنان يباع بـ 15 دولاراً خارجه، وكل دونم ( الف متر مربع) مزروع بالحشيش ينتج حوالى 10 آلاف إلى 15 ألف دولار. وتتراوح تحديدات حجم المساحة المزروعة بالحشيش في لبنان بين 10 آلاف و30 ألف دونم.

تاريخياً، يروي بعض العارفين كيف شكّلت فلسطين منفذ الحشيشة اللبنانية الى البلدان العربية والعالم. فكان التجار ينقلونها براً من البقاع الى الجنوب، ويعبرون بها الحدود لتشكّل احدى الصناعات اللبنانية الأكثر طلباً.

ومع الوقت، بات بحر صيدا بوابة التصدير عبر المراكب والمستوعبات، لتأتي الحرب اللبنانية فيستقبل البحر عبر مرافئه من طرابلس الى صيدا، مروراً بالسعديات، المحصول اللبناني.

وبما أن طريق البر الى البلدان العربية تمر بسوريا، كان التجار يوضبون محاصيلهم ويسلمونها الى السماسرة المعتمدين، يعبرون بها الحدود عبر المعابر غير الشرعية، ومن هناك الى خليج العقبة فمصر فبلدان الانتشار.

ويذكر أحد التجار كيف كان طلعت، شقيق الرئيس المصري الراحل أنور السادات، يسهل تمرير الحشيشة اللبنانية عبر الأراضي المصرية. ويروي احد التجار قوله لضابط سوري اثناء عملية تلف الحشيشة في أواسط التسعينيات " صدّقني انه لولا الحشيشة، لما عبر المصريون قناة السويس. فالحشيشة اللبنانية أسهمت في زيادة تصميم العسكري المصري ومكّنته من كسر خط برليف...الله يرحم طلعت السادات، كان شريكنا الوفي".

بين التشريع والزراعات البديلة

مع نهاية الحرب اللبنانية في اوائل التسعينيات، وعد المزارعون بالزراعات البديلة، لكن شيئاً لم يحصل من هذا القبيل وبقيت الطروحات في سياق الكلام والوعود التي لم تصدق.

ويشير ابو اسعد جعفر احد العاملين على خط الزراعات البديلة ل"البلد"، الى ان "هناك دراسة موضوعة تتعلّق بالقنب الاخضر الصناعي الذي ينتج في العديد من البلدان في أنحاء العالم، ويستخدم في صناعة الحبال والأقمشة". ويشرح أن هذا المشروع بدا من الحلول المتاحة التي كان يمكن في ضوئها للمزارع ان يلحس اصبعه ولا يصاب بخسارة، وهو حلّ يشمل الاراضي الزراعية من القاع وحتى البقاع الغربي... ولكن، ويا للاسف، وضعت هذه الدراسة مع غيرها في الأدراج".

يعتبر المزارعون أن الدولة وبعدم جدّيتها في السير بالزراعات البديلة تقول للمزارع "روح عمول يلي بدك اياه"، ولا يبقى امام قسم كبير من المزارعين الا اللجوء الى زراعة الحشيشة. فالمزارع يحتاج الى الرعاية من دولته، وهي بغيابها تدفعه الى ان يسلك طريقاً لا يريدها.

وفي ضوء هذه المعضلة، يجري الحديث اليوم عن التحضير لعفو عن المطلوبين في البقاع. ويشرح الناطق باسم لجنة العفو ابو محمد قاسم طليس أن "العفو بات لزاماً لتعود الدولة من غربتها الى البقاع، خصوصاً ان اقراره سينعكس ايجاباً على 50 الف شخص وعشرات آلاف العائلات".

وبحسب المعلومات فالاجتماعات متواصلة على هذا الصعيد ويجري العمل على التحضير لموعد مع رئيسي الحكومة والمجلس النيابي لتأمين الاجواء الملائمة به.

وفي هذا السياق، يتحدّث المعنيون عن تطمينات معطاة لهم وان "هناك مسودة اقتراح قانون جرى العمل عليها مع القوى السياسية والكتل النيابية ووعدنا خيراً".

ينظر المزارعون الى كلام رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط عن تشريع الحشيشة بجدّية. "فوليد بيك زعيم وطني وحديثه ليس عابراً بل يجب اخذه بجدية، مع التمني بأن يستمر بطرحه حتى النهاية".