...وفي 10 كانون الأول 2015، اطفأت شمعتها العاشرة لتتحوّل الى رمز. لملمت بقايا لبنانيين حضنت صورهم في كل الظروف، في برد الشتاء وعواصفه، وفي حرارة الصيف وظمئه. هي خيمة جمعية سوليد (لجنة دعم أهالي المعتقلين في السجون السورية) التي بقيت شاهدة طوال عقد على أن لعائلات لبنانية عدة اب او اخ او ام مرّوا يوماً على حاجز لجيش نظامي او ميليشيا ولم يرجعوا، فتحوّلوا الى قضية، وتحوّلت مع غيابهم حياة عائلاتهم الى ألم وغصة وحرقة واشواق.

بعد ظهر امس الخميس بدقائق قليلة، اسلمت الخيمة الروح لتبقى في مكانها شاهدة ويتركها أهلها بحثاً عن خطوات جديدة للوصول الى غايتهم. انهى الاهالي مؤتمرهم الصحافي في اليوم العالمي لحقوق الانسان وغادروا، ولكن ما جسّدته من قضية سيستمر باساليب أخرى. فالحرب اللبنانية وإن توقّفت بالرصاص والمدفع، لم تنته بالويلات والملفات...لم يفتح ملف المخفيين قسراً مرة أخيرة ليقفل على قاعدة الحقائق والمصارحة بين من قتل ومارس التصفية الجسدية واخفى، ليتصالح مع عائلات فقدت اعزاءها.

كان من المفترض أن ينتهي المؤتمر الصحافي الذي عقدته سوليد في وسط بيروت بازالة الخيمة. لكن مشاورات الدقائق الاخيرة افضت الى الابقاء عليها، مع اتخاذ القرار بمغادر الاهالي لها، وهم الذين حوّلوها الى منزلهم الثاني، حيث تحضر الذكريات مع الاحباء والأمل بلقائهم في وقت قريب...وقت طال لعشر سنوات منذ بدء الاعتصام، ولاكثر من عقود منذ الحرب اللبنانية.

وفي هذا السياق يقول رئيس جمعية سوليد غازي عاد ل"البلد" "فكّرنا بالمغادرة وترك رمز يجسّد قضيتنا امام بيت الامم المتحدة. فلم نجد افضل من بقاء الخيمة، فهي الرمز بحد ذاته".

لم يكن من السهل على عاد أن يعلن فض الاعتصام المستمر ليلاً نهاراً منذ عشية الانسحاب العسكري السوري من لبنان في السادس والعشرين نيسان من العام 2005. الرجل الذي اقعده حادث سير على كرسي متحرك قبل عقود، تحمّل كل المشقات، ولم يمنعه شيء من ان يواصل ملاحقة قضية رفع لواءها في كل الظروف، فكان رئيس جمعية سوليد الصوت الصارخ بين مكاتب النواب ومقرات الفعاليات الحزبية والسياسية، يحمل ملفاً وثّقه بالاسماء والوقائع الى رئيس حكومة، ليعود فيذكّر بعد حين الساكن في السرايا بأن الملف ينتظر المعالجة.

بالدموع ودّع الاهل خيمتهم. وإن لم تكن مراسم الوداع في حديقة جبران خليل جبران الاولى من نوعها. فعلى مدى سنوات، فقدت الخيمة أهلها. رحلت اوديت سالم على بعد امتار منها بعدما صدمتها سيارة، بينما كانت تحتمل مرضها وسنواتها السبعين، لتقول من على بعد امتار من مبنى الأمم المتحدة، أن لها شاباً وابنة، خرجوا صبيحة يوم من المنزل، بعدما شربوا معها قهوة الصباح، وودعوها على امل "يشوفوا وجا بخير"...الاّ ان غيبتهم طالت، والانتظار بات ثقيلاً، يترك آثاره الصحية عليها...الى أن ملّت ربّما الانتظار على هذه الأرض، فانتقلت الى المكان الذي ترجو فيه عدالة السماء، بعدما بحثت عن عدالة الأرض ولم تجدها.

في بضعة امتار مربّعة عشرات القصص. تختلف الاسماء والوجوه، وتلتقي عند معاناة مشتركة، هي فقدان الأحبة وانتظار عودتهم، وانتظار السلطات الرسمية لتبادر بجدّية لانهاء المأساة في الشكل المطلوب. فاحدى عشرة سنة مرّت على خيمة الاعتصام "ولم تيأس الامهات اللواتي اخترن النضال في وجه السلطة التي لا تملك حس الكرامة الوطنية لان كرامة المواطنين هي من كرامة الوطن"، كما قال عاد.

اليوم بات للنضال اشكال جديدة.نجحت الخيمة في جمع الاهالي وجمعيات المجتمع الدولي ضمن شعار موحد وهو الاخفاء القسري، فيما كان كثيرون يتحججون بالانقسام السياسي من اجل التهرب من ايجاد الحلول للقضية.

يمتلك الاهالي مع الجمعيات المعنية الارضية القانونية التي من خلالها سيصعدون العمل والضغط من اجل تشكيل الهيئة الوطنية لضحايا الاخفاء القسري، والوصول الى الوزارات ومجلس شورى الدولية.

سينتقل النضال من مرحلة لا يكون الاهل فيها عرضة للتعب والانهاك في الخيمة. قبل عام سلمت لجنة أهالي المفقودين والمخطوفين وجمعية "سوليد" الملفات الإستقصائية الخاصة بالأشخاص الذين فقدوا خلال الحرب الأهلية اللبنانية الى اللجنة الدولية للصليب الأحمر. تعاونت الجمعيات المعنية مع اللجنة الدولية للصليب الاحمر على مدى سنوات طويلة الى ان وضعت في عهدتها الملف الرسمي للتحقيقات. اما الخطوة التالية التي انتظرتها الجمعيات ولا تزال، فهي انشاء بنك معلومات الحمض النووي لاهالي ضحايا الاخفاء القسري والمفقودين. وعلى الرغم من أن إنشاء قاعدة المعلومات هذه هو أبسط واجبات الدولة ان لم يكن من البديهيات، الاّ أن الدولة بوزارات وسلطاتها المعنية لم تبادر بعد في هذا الاتجاه.

وللسائلين عن ماذا بعد؟ جاءت الاجابة من عاد بقوله "نحن اليوم ننتقل من مرحلة جد مهمة في تاريخ لبنان وتاريخ قضية المعتقلين والمخفيين قسرا الى مرحلة جديدة لا يكون الاهل فيها عرضة للتعب والانهاك بسبب الخيمة. لقد قاموا خلال الأعوام العشرة الماضية بأعجوبة ابقائها بالرغم من كل الاهمال الرسمي والتآمر على قضيتهم وبالرغم من كل الاحوال السياسية والصحية والمعيشية والاجتماعية الصعبة".

هي عشر سنوات من عمر، من نضال، من قضية، من لامبالاة رسمية. وهي خطوات مطلوبة في المرحلة المقبلة. سيستمر الضغط لانشاء الهيئة الوطنية لضحايا الاخفاء القسري، وستكرر مطالبة الامم المتحدة بمتابعة هذا الملف وتحمل مسؤولية المساهمة في الضغط لتشكيل الهيئة.