من الحاجة الى العادة، تحول ​التسول​ من وجهه الانساني الى غايته المهنية، بات مع النزوح السوري الى لبنان عادة ومنفرة... عشرات الاطفال والفتيات لم يبلغوا سن الرشد والحلم بعد ينتشرون على الطرقات الرئيسية وعند المستديرات في ​مدينة صيدا​ على مدار الساعة، حتى في اوقات متأخرة من الليل، يمدّون اليد مباشرة تارة وعبر بيعهم لاغراض تارة اخرى، وفي كل الاحوال يترك مشهدا حزينا استحوذ على اهتمام المؤسسات الاهليّة والقوى الامنية لمعالجة هذه الافة الاجتماعية.

هذه الظاهرة التي استفحلت منذ أشهر وبلغت ذروتها صيفا، عادت اليوم لتتراجع تدريجيا لاسباب عديدة اولها بدء موسم الشتاء والبرد القارس ليلا، وثانيها انخفاض اعداد النازحين من سوريا بسبب اقبالهم على الهجرة او العودة الى بلادهم بعيدا عن ذل السؤال، وثالثها قيام "تجمع ​المؤسسات الاهلية​" في صيدا بمكافحة هذه الظاهرة بالتعاون مع ​بلدية صيدا​، حيث انجز دراسة مفصلة قامت على المتابعة الميدانية للمتسولين في المدينة وغالبيتهم من النازحين السوريين ثم اللبنانيين وقلة من الفلسطينيين، ناهيك عن البدو عند خط السكة في تعمير عين الحلوة، واستطلاع ارائهم ومعرفة أسباب التسول وصولا الى فتح باب الانتساب الى تعليم مهني للراغبين منهم، قبل التنسيق مع القوى الامنية لمنع ما تبقى من ظاهرة بدأت تشوه صورة صيدا التي لها تاريخ عريق بالتعامل مع القضايا الإجتماعية والانسانية.

خطوات هامة

ويوضح منسق "تجمع المؤسات الاهلية" في صيدا ​ماجد حمتو​ لـ"النشرة" تفاصيل الخطة، على قاعدة ان مؤسسات المدينة الاهلية والاجتماعية تختزن من الخبرة والتجربة ما يؤهلها للتعامل مع القضايا الانسانية والاجتماعية بنجاح ولا سيما قضية المتسولين، ويقول "ان المؤسسات السياسية، الإجتماعية، الاقتصادية، الروحية والأمنية توافقت على دعم الحل الإجتماعي اولا لهذة الظاهرة حيث تتوفر في صيدا"، مشيراً إلى أنّ هناك "مؤسسات ومراكز هامة لإستقبال هذه الحالات الإنسانية المهمشة"، مؤكدا "اهمية ان يكون هناك برنامج موحد امني وانساني يشارك فيه الجميع".

حمتو الذي واكب عمل فريق من المتطوعين قوامه 30 شابة وشابة توجهوا إلى احياء في مدينة صيدا، والى تقاطع ايليّا، شارع سبينس، سوق صيدا التجاري، أمام المساجد وشارع الحج حافظ، حيث تشهد اكتظاظا بالمتسولين، قال ان الخطة جرت بنجاح وبالتنسيق الكامل مع رئيس البلدية المهندس محمد السعودي وقائد قوى الأمن الداخلي في الجنوب العميد سمير شحادة، "وقد خطونا خطوات هامة في وضع تصور ايجابي لها وانجزنا دراسة مفصلة عن هذه الظاهرة والاسباب وكيفية علاجها"، قبل ان يستدرك "ان التنفيذ الشامل يحتاج الى تمويل دولي لدعم المشروع على قاعدة انه تنموي، فيما الاهتمام ما زال ينصب على الجانب الاغاثي للنازحين، ونحن نجري اتصالات مع مؤسسات دولية تعنى بالشأن الانساني والاغاثي من اجل المساهمة في المساعدة وننتظر الاجوبة".

المراهقة والتسوّل

واظهر ملخص لنتائج الدراسة الميدانية التي شملت 65 متسولا من عمر الخامسة وحتى الستين سنة ومن الجنسين ذكورا واناثا، بان الغالبية العظمى من المتسولين هم من السوريين 60%، يليهم اللبنانيون 29%، ومعظمهم من اللبنانيين المجنّسين حديثا ومن النَوَرْ، ثم مكتومي القيد 6%، ثم الفلسطينيين 5% والفئة العمرية الاكبر من المتسولين كانت بين 12 و15 سنة.

ويؤكد حمتو ان فريق المتطوعين قام بعدة جولات على ذات المناطق للتأكد من المعلومات، وفي الوقت ذاته معرفة إذا كان هناك أشخاص جدد، ولاستكمال النقص بالمعلومات سواء البيانات الشخصية، او الصور ومقاطع الفيديو، وقد لاحظ وجود تناقض وغموض في البيات التي يُعطيها المتسولون، باستثناء الأطفال الذين أبدوا تجاوبا كبيرا وارتياحا لوجود شخاص يستمعون اليهم، فيما كان اللافت رفض اكثر من عشر نساء متسولات وبشكل عدائي إعطاء أي معلومة ووجود الاطفال المتسولين في منتصف الليل.

متسولون واحلام

عند دوار "إيليا"، المستديرة الاكثر جذبا للمتسولين بسبب توقف السير وازدحام السيارات، يقف الفتى احمد التاجي (13 عاما)، يريد أن يصبح طبيبا كوالده الذي قضى في سوريا، ولكن الظروف لم تساعده، واضطر للنزول الى الشارع للتسول واعالة أمه وشقيقتين له وفق ما اكد، وقد أبدى رغبة واستعدادا للاندماج في تدريب مهني يساعده على كسب قوت يومه بعيدا عن التسول، قائلا "أهلي ما إلون غيري، أنا بحب المدرسة كتير وكنت شاطر، يا ريت فيني ارجع واتعلم".

وامام أحد المساجد، يصدح الفتى هادي المحمد في السادسة من عمره بصوته المتهدج متسولا، يمد يده ليأخذ المال من المصلين، فيما والدته "ام هادي" تتمركز في ذات المكان بانتظار انتهاء الصلاة للقيام بالتسوّل ايضا، وتؤكد "ان ولدها هادي لم يدخل المدرسة وستكون سعيدة ان استطاع دخولها مجددا، فالحياة المعيشية صعبة"، مضيفة "انني أم لسبعة اولاد لا معيل لهم، اذهب كل يوم للتسول واصطحب هادي من اجل بث الشفقة في قلوب الآخرين بسبب صغر سنه وشكله البريء"، مشيرة الى رغبتها في تعلم حرفة تساعدها في تأمين لقمة العيش، بينما تقول فرح الأسمر (13 عاما) ان مرض والديها دفعها الى التسول ولديها 3 إخوة، وقد بدأت بالتسول من سنتين وأن والدها لا يقبل أن تبدأ في الدراسة، فيما هي تريد ذلك وتحلم أن تصبح دكتورة كي تتخلص من التسول ووقف الشارع.

ويؤكد علي المحمد، انه سئم التسول وكره طفولته المعذبة والملية بالشقاء والتعب بدلا من اللهو واللعب وبات يفكر جديا بالهجرة عل حظه العاثر يتغير مع تغير البلد، قائلا "نعيش بلا ادنى شروط الحياة وكرامتنا مهانة لاننا نمد اليد لنؤمن قوت اليوم"، مضيفا "لاننا لا نستطيع العودة الى بلدنا الهجرة باتت خيارنا الحيد المتاح لعيش افضل ومستقبل ارقى".

ويعول ممثلو المؤسسات الاهلية على نجاح الخطة هذه المرة لانها تتكامل بشقها الاجتماعي والانساني مع الامني، حيث اكد امين سر الهيئة الادارية للتجمع فضل الله حسونة، "ان عملية مكافحة ظاهرة التسول ستتم بالتنسيق مع وزارة الشؤون الاجتماعية والمؤسسات الأهلية في الجنوب التي تساعد في إيجاد الحلّ الملائم للاطفال المتسولين"، كاشفا عن "خطة أمنية ستنفذّها القوى العسكرية والأمنية تهدف الى القضاء على هذه الظاهرة وملاحقة مشغلي الاولاد القصر وذلك تطبيقا لقرارات اتخذها مجلس الأمن الفرعي في الجنوب"، مؤكدا ان "العمل جار لايجاد حلول جذرية لهذه المشكلة الاجتماعية بعدما باتت ظاهرة التسول لهؤلاء الاطفال تكثر في المناطق التي تعاني من اكتظاظ سكاني".