يبدو كلما اقترب الباحث من مراكز القرار الدولي والإقليمي أدرك خطورة ودقة ما تشهده المنطقة والعالم من تعقيدات ستؤجل حلولها الى العام المقبل وربما الذي يليه، فضلاً عن إمكانية تحويل الإشتباك البارد حرباً ساخنة بكلّ معنى الكلمة. فقد لا تكتفي الدول الكبرى وعلى رأسها روسيا الإتحادية والولايات المتحدة الأميركية بحروب الواسطة عبر اللاعبين الصغار وفي خرائط محدودة، بل ربما نشهد فصلاً في سياق طويل يتواجه فيه «الدب الروسي» مع الخصم الأساس «حلف الناتو» كما يقول أحد القريبين من دائرة صناعة القرار في العاصمة موسكو.أخطر ما في المرحلة أنّ عواصم القرار ومراكز صناعة السياسة فيها لا تتعاطى مع المشرق العربي وبلدانه بصورة الكيانات المتعارَف عليها منذ زمن سايكس - بيكو، بل إنّ قاموساً مذهبياً وإثنياً بدا جلياً وحاضراً في أيّ جلسة نقاش مع ديبلوماسيين او أمنيين او حتى إعلاميين من القريبين من دائرة القرار في بلدانهم. وإنّ خرائط مختلفة عن تلك المعلقة في مكاتب مسؤولي وضباط دولنا تحضر حين يناقَش الأمر على طاولات «الجنرالات» في غرف صناعة القرار.

الزائر للعاصمة موسكو يتلمّس حرارة الديبلوماسية على رغم صقيع الشهر الأخير من العام الذي سيطوي معه صفحة عنوانها «السوخوي»، إلّا أنّ مضمونها أبعد من ذلك بكثير سواءٌ عسكرياً عبر القنابل النووية التكتية التي باتت جاهزة للإستعمال في مراحل الحرب التالية كما يقول مرجع عسكري روسي غامزاً من الباب العالي للسلطنة «الإردوغانية» على حدّ تعبيره.

وتوازياً مع الآلة العسكرية الضخمة، جهزت الماكينة الديبلوماسية والإعلامية في العاصمة موسكو للعام المقبل بزحمة من المؤتمرات والأنشطة وهيئات مختصة مولجة بمواكبة الحرب الناعمة توازياً مع حرارة القنابل والصواريخ، ما يدلّ على جدّية المعركة من جهة وإمكانية تحويل مساراتها بطرق شتى سواءٌ حرباً او سلماً وبمدى زمني مفتوح.

في أحد القصور السابقة التي كان يُكرّم فيها «ستالين» ضيوفه يتقاسم بهو الفندق ضيوف من جنسيات عدة جلسوا إلى طاولات متفرّقة يمكن من خلال النظر اليها إستخلاص أولويات الحكومة الروسية وما يشغل بال «القيصر» فلاديمير بوتين.

الى اليسار طاولة نقاش تمتزج فيها اللغات واللهجات بين العربية والفارسية لمجموعة من الصحافيين والسياسيين المسلمين المشاركين في مؤتمر «إعلاميون من العالم الإسلامي في مواجهة التطرّف» حيث تعكس تلك الطاولة أولويّة الإدارة الروسية في الإهتمام بالعالم الإسلامي الذي يشكل المسلمون «خمس» المجتمع الروسي وما يقارب ثلث أقاليمه الفيدرالية الخمسة وثمانين، مع تسجيل ملاحظة أوّلية أنّ بين الجالسين إعلاميين خليجيين من القريبين لحكومات بلادهم، ما يدلّ على أنّ «شعرة معاوية» بين موسكو ودول مجلس التعاون لم تنقطع على عكس العلاقات بين دول العالم الإسلامية نفسها.

وكيف لا يشغل بال قيصر روسيا الإتحادية الإسلام وأهله وبأبنائهم قدّ تمّ فرط عقد الإتحاد السوفياتي السابق؟ يوم شقّ الاميركيون بما يسمى «الجهاديين» «طريقاً يبدأ من «بيشاور» ولا ينتهي في «القوقاز» كما يقول ديبلوماسي روسي على هامش إحدى جلسات «العصف الفكري» لأصدقائه من الإعلاميين المسلمين.

وعلى مسافة ليست ببعيدة من طاولة «الإعلامين المسلمين» تشهد طاولة ثانية نقاشاً يبدو أكثر حدّية بين سياسيين أوكرانيّين واصدقائهم الروس الذين جمعتهم اللغة وفرّق «قرمهم» الغرب على حدّ وصف ديبلوماسي روسي.

أوكرانيا التي تحوّلت من دولة في حكم الحال الواحد مع روسيا الى عدوّ تطالبه موسكو عبر وزارة المال بتسديد دينها البالغ 3 مليارات دولار بالكامل قبل نهاية الشهر الحالي، وإلّا!

وما بين مطرقة العالم الإسلامي المتغلغل في الخاصرة الروسية عبر دول الإتحاد ذات الغالبية المسلمة وسندان أوكرانيا التي انفصلت سياسياً عن روسيا لتبقى «القرم» في حضن الدب الروسي وسط إشكالاتٍ مالية وأعباء على كاهل حكومة القيصر، يبدو أنّ الأولوية الروسية تكمن في الحرب مع «الناتو» ومن خلفه دول الغرب التي سلّطت سيف العقوبات الإقتصادية على رقاب الروس، في ضغط منها على شعب «القيصر» لفرملة طموح القادم من العقل السوفياتي الى رحاب الشراكة في إدارة العالم الحالم بإسقاط الآحادية الأميركية التي تتحكّم بالعالم منذ عقود طويلة.

ولذا فإنّ أولويات القيصر وما يشغل باله، يبدأ بالعالم الإسلامي الذي تشكل الحرب في سوريا عمقه الأساس، ولا ينتهي بأوكرانيا الجرح المفتوح سياسياً والذي بدا يؤثر داخلياً عبر النزيف المالي الذي جعل «الروبل» في أدنى مستوياته أمام الدولار منذ زمن بعيد.

فيما تبقى المعركة الأساس مع الغرب الذي ترى فيه الإدارة الروسية الخصمَ الأساس الذي يستخدم أذرعته العسكرية عبر «الناتو» والذي تلقت «موسكو» عنه واحداً من أخطر التقارير التي تفيد بالنّية لإنشاء قواعد عسكرية في «الحسكة» السورية، إضافة الى البلقان ومحاولة التغلغل فيه عبر إستمالة حكومة «الجبل الأسود» وليس إنتهاءً بمحاولة زعزعة الداخل الروسي عبر استعمال سلاح العقوبات الإقتصادية في محاولة لتفريغ «القيصر» من قوّته الأساس... بفضّ الشعب الروسي عنه.