من معراب إلى الرابية مرورًا ببكفيا، عمّت "الاحتفالات" مختلف المناطق اللبنانية بـ"إجهاض" ​التسوية الرئاسية​، التي قيل أنّها ستكون "ممرّ" رئيس "تيار المردة" النائب ​سليمان فرنجية​ إلى قصر بعبدا، واعتُبِر ما حصل وكأنّه "انتصارٌ" تحقّق بكلّ ما للكلمة من معنى.

ولكن، أبعد من هذا "الإنجاز"، هل "ماتت" التسوية فعلاً، أم أنّها "ترنّحت"، أو "جُمّدت" كما يحلو للبعض توصيفها بانتظار "نضوج" بعض الظروف المؤاتية؟ وماذا لو أجهِضت فعلاً؟ ما هي البدائل التي يمكن اعتمادها عندها، وهل من بدائل أصلاً؟

التسوية تترنّح...

يوحي تكتّل "المتضرّرين" الذي نشأ بعيد كشف النقاب عن اللقاء الباريسي الذي جمع النائب فرنجية ورئيس "تيار المستقبل" ​سعد الحريري​، أنّ "التسوية" التي طُرِحت في أعقابه قد أصبحت في "خبر كان"، وأنّ "رصاصة الرحمة" قد أطلِقت عليها.

ولعلّ "الحركة" التي أمكن "رصدها" في الأيام الأخيرة على أكثر من خطٍ ومستوى، تحت عنوان "ترتيب البيت الداخلي" داخل كلّ فريق لمعالجة "التصدّعات" التي نشأت على كثرتها وتنوّعها، سواء من خلال لقاءي الرابية وحارة حريك، اللذين جمعا فرنجية مع "حليفيه" رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون والأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله، أو من خلال الاتصال الهاتفي "المطوّل" بين الحريري و"حليفه" رئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​، تأتي لتؤكد هذا "الاتجاه"، باعتبار أنّ "الأولويات" تغيّرت، ولم يعد همّ "عرّابي التسوية" إيصال فرنجية إلى "القصر" بقدر ما أصبح "ترميم التحالفات"، تفاديًا لـ"التضحية المجانية وغير المضمونة" بها منذ الآن.

ولكن، في مقابل هذه النظرة التي يعمّمها "المتضرّرون"، وجهة نظرٍ أخرى تقول بأنّ ورقة فرنجية "لم تُحرَق بعد"، بدليل تمسّك "أصحابها" بها، وهو ما بدا واضحًا في البيان الذي صدر عن مكتب الحريري قبل يومين، والذي أفاد أنّ اتصاله بفرنجية خلص إلى تأكيد متابعة التشاور والمضي في "المسار المشترك لانتخاب رئيس الجمهورية"، ما يعني أنّ "الشيخ سعد" لا يزال ماضيًا بترشيح فرنجية، من دون أن تتّضح الأسباب التي تدفع إلى التفاؤل والثقة إلى هذه الدرجة، وإن كان يقرّ ضمنيًا بأنّ التسوية تترنّح وتسير ببطءٍ شديدٍ يكاد يوازي بطء السلحفاة في أحسن أحواله...

تمديدٌ للفراغ!

عمومًا، وبعيدًا عن نظرية "التجميد" و"البطء"، ماذا لو صحّت نظرية "موت" التسوية، سواء كانت وفاة طبيعية أم جنائية؟ ما هي البدائل التي يمكن أن تُطرَح على الطاولة، خصوصًا من أولئك المعارضين للتسوية والذين يعملون بكلّ ما أوتوا من قوة لـ"دفنها في مهدها"؟

صحيحٌ أنّ هؤلاء تكتّلوا في ما يشبه "خط السير الواحد"، إلا أنّ أهدافهم، كما لا يشكّ أحد، مختلفة حدّ التناقض، خصوصًا أنّهم عمليًا لا يقدّمون بدائل جدية بعيدًا عن "الانتظار"، فالعماد ميشال عون على سبيل المثال يعتبر أنّه الأحقّ بالوصول إلى الرئاسة، وأنّ الفرصة التي يرى أنّها ما زالت متاحة أمامه لن تتكرّر أبدًا لأسبابٍ واعتباراتٍ متعدّدة، وهو ليس مستعدًا لـ"التنازل" لصالح أحد، ولو كان هذا "الأحد" حليفه. وإذا كان عون يمنّي النفس بانتزاع "دعم قواتي" في "معركته" إذا حصل "الطلاق" بين الحريري ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، فإنّ الأخير لا يبدو بهذا الوارد لغاية تاريخه، وهو يفضّل خيار المرشح "التوافقي" الذي يمرّ من خلال معراب والرابية في آنٍ واحدٍ، في حين لا تزال "عين" الرئيس السابق ​أمين الجميل​ على "الكرسيّ"، ويعتقد أنّ سقوط "تسوية" فرنجية، بعد "إحراق" ورقتي عون وجعجع قبله قد يؤدّي إلى فتح "الطريق" أمامه.

ولكنّ قراءةً موضوعية للموقف تستبعد سريعًا الخيارات الثلاث المطروحة أعلاه، ففكرة "المرشح التوافقي" ليست واردة في هذه المرحلة كما يؤكد القاصي والداني، وما طرح اسم فرنجية من قبل "تيار المستقبل" سوى خير دليلٍ على ذلك، كما أنّ المعركة تبدو محصورة، أقلّه في المدى المنظور بين عون وفرنجية، نظرًا للمتغيّرات الإقليمية التي يرى المراقبون أنّها تميل لصالح "محور الممانعة" ممثلاً بفريق الثامن من آذار، في وقتٍ يصطدم الخيار الأول بـ"فيتو"، خصوصًا من قبل الطائفة السنية، تمامًا كما هناك "فيتو" على جعجع من الطائفة الشيعية، لتبقى في المحصّلة نتيجة ثابتة وأكيدة واحدة لسقوط التسوية قيد التداول تقضي بـ"تمديد" الفراغ لأمدٍ آخر غير منظور، لا أحد يعرف حجم ونوع إفرازاته السياسية، وإن كان التهويل بالانهيارات الأمنية والاقتصادية وما شابه مجرّد تكهّناتٍ لا أساس لها على الإطلاق.

الطائف بين الترميم والإسقاط

وأبعد من هذا وذاك، تساؤلاتٌ كثيرة تُطرَح في هذه المرحلة، فلماذا يسوّق الحريري لـ"الصديق الشخصي" للرئيس السوري كمرشحٍ "تسووي"؟ وما الذي يطلبه في المقابل؟ هل صحيحٌ أنّه يسعى إلى العودة إلى "السلطة" من بوابة هذه "التسوية"؟ وهل يكون قانون الانتخاب "ضحيّة" هذا البازار كما يسرّب الكثيرون، خصوصًا أنّ الحريري هو من أشدّ رافضي مبدأ "النسبية" لكونها ستطيح بـ"احتكاره"؟ ثمّ ممّا تخشى قوى الثامن من آذار بالتحديد، ولماذا لا تقتنص الفرصة بإيصال أحد صقورها إلى قصر بعبدا، وهو المعروف بمبدئيته وعدم خضوعه بأيّ شكلٍ من الأشكال؟ وألا ترى أنّ فرص إيصال مرشحها الرسمي والأساسي قد "استنفدت"، وأنّ الانتظار أكثر قد يجعلها تُمنى بـ"خسارة مزدوجة" في أقلّ التقديرات؟

ولكن، وعلى قاعدة "متى عرف السبب بطل العجب"، يسوّق الكثيرون لفكرة أنّ "المعركة الفعلية" هي أبعد من كلّ هذه "التفاصيل"، وأنّ محورها الأول والأخير يبقى ​اتفاق الطائف​، ذلك أنّ المعركة هي على هذا الاتفاق قبل كلّ شيء، باعتبار أنّ هناك خيارَين مطروحَين عمليًا، وإن تعدّدت التسميات، أولهما هو الحفاظ على هذا الاتفاق من خلال تسويةٍ ما تشبه ما قدّمه الحريري، أو الشروع بعملية إسقاطه، من خلال الاستمرار بالتعطيل، وهو ما يؤرق رئيس "تيار المستقبل" فعلياً، ويدفعه إلى القبول بأيّ حلّ "إنقاذيّ" على هذا الصعيد.

ويشير المتابعون في هذا السياق إلى أنّ اندفاعة "المستقبل" في هذا الإطار، التي أتت مباشرة بعد خطابٍ للأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله طوى فيها صفحة "فزّاعة المؤتمر التأسيسي"، تدلّ على محاولةٍ لاقتناص الفرصة قبل "أن تعود حليمة لعادتها القديمة"، خصوصًا أنّ هناك من حلفاء "المستقبل" من لاقى طرح "المؤتمر التأسيسي" عبر شعار "تطوير النظام" الذي يصرّ عليه رئيس حزب "الكتائب" النائب ​سامي الجميل​، ولعلّ الخطاب الذي ألقاه يوم الأحد يؤكّد هذا الاتجاه، ويتوقعون أن ينشط "المستقبليّون" أكثر خلال المرحلة المقبلة في محاولةٍ "لملء الشغور كيفما كان"، تحت شعار "الحفاظ على الطائف" الذي يبقى أعلى من كلّ الحسابات الضيّقة الأخرى.

لا بديل...

هكذا إذاً، لا يبدو رئيس "تيار المستقبل" مستعداً لـ"نعي" التسوية الرئاسية، رغم كلّ ما سمعه ويسمعه ليس فقط من الحلفاء، بل حتى من داخل بيته "الأزرق".

البديل الوحيد برأيه ليس حتى استمرار الفراغ، بل إسقاط "الطائف" بوصفه "خشبة الخلاص الوحيدة"، وهو ما لا يريد الوصول إليه تحت أيّ اعتبارٍ من الاعتبارات.

الحريري ماضٍ في تسويته إذاً، فهل "يحتوي" العراقيل أم "يستسلم" في نهاية المطاف؟