مجدّدًا، قُرِعت "طبول الحرب" في لبنان خلال الساعات القليلة الماضية، وذلك على خلفيّة إقدام إسرائيل على اغتيال عميد الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية ​سمير القنطار​.

ولأنّ الرجل ليس مناضلاً أو مقاومًا عاديًا، بل يرقى لمستوى "الرمز"، وهو الذي خاض "حزب الله" حرب تموز 2006 لأجل تحريره، فإنّ أحدًا لم يتوهّم أنّ اغتياله يمكن أن يمرّ مرور الكرام، أو أنّ ما قبله سيكون تمامًا كما بعده.

وإذا كان "التأهّب" و"الاستنفار" شكّلا عَصَب التعاطي الإسرائيليّ مع الحدث، فإنّهما لم يحجبا كمّ علامات الاستفهام التي طُرِحت سريعًا، فهل تسبق طبول الحرب مناخات التسوية التي سارع البعض لدفنها في مهدها؟ ومَن المستفيد من كلّ ذلك؟

مؤشراتٌ ودلالات...

ثقيلاً كان صباح الأحد على اللبنانيين الذين استفاقوا على خبر اغتيال سمير القنطار في سوريا. في بلد التناقضات، بدا الخبر قاسيًا ولو سبقته العديد من المحاولات الفاشلة، صادمًا وإن كان متوقّعًا، وقد سبقه القنطار نفسه عندما قال قبل أسابيع أنّ اغتياله لن يوقف مشروع المقاومة الذي وُضِع على السكّة في سوريا.

وباستثناء بعض الأصوات "الشاذة" التي تعجز عن "تغييب" نفسها حتى في اللحظات الصعبة والحرجة، بدا الموقف اللبناني "موحّدًا" إلى حدّ ما. غاب الخطاب "الاستفزازي"، ليحضر الاستنكار والإدانة بعيدًا عن "الاختلاف على التفاصيل"، تمامًا كما غاب السؤال الكبير إياه الذي يرافق كلّ خسارةٍ لـ"حزب الله" في سوريا، وعنوانه "ماذا يفعل أصلاً في بلاد الشام؟"

برأي الكثيرين، يعود الأمر إلى "رمزية" القنطار في الداخل اللبنانيّ، هي "الرمزية" نفسها التي جعلت "الخشية" تتصاعد من ردّ انتقاميّ نوعيّ من جانب "حزب الله"، الذي سبق لأمينه العام السيد حسن نصرالله أن هدّد إسرائيل من التعرّض لأيّ من عناصر الحزب غيلةً. ولأجل ذلك، حرصت إسرائيل على عدم "تبنّي" الاغتيال، رغم أنّ "بصماتها" أكثر من واضحة وجليّة، مستعيدة بذلك "السيناريو" نفسه الذي سبق أن اعتمدته غداة اغتيال المسؤول العسكري في "حزب الله" عماد مغنية في دمشق أيضًا، قبل أن تعود وتعترف بمسؤوليتها بعد مرور ثماني سنوات على الجريمة.

في كلام السيّد...

سريعًا، اتّجهت كلّ الأنظار إلى خطاب الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله، الذي لم يتأخّر ليدلي بدلوه، في مفارقةٍ لافتة بالشكل أولاً، إذ إنّه لم يعتمد الاستراتيجيّة نفسها التي اعتمدها بعيد غارة القنيطرة الشهيرة مطلع العام، والتي قيل أنّ القنطار نفسه كان "هدفها غير المُحقَّق". يومها، "صام" السيّد عن الكلام لخمسة أيامٍ كاملة، ولم يكسر "صيامه" إلا بردّ عمليّ على الأرض، أعلن فيه أنّ زمن "السكوت" قد ولّى.

اليوم، اختلف "الشكل" من دون أن يختلف "المضمون". لم يصمت "السيّد"، لكنّه لم "يطمئن" عدوّه في أيّ حرفٍ من أحرف خطابه الذي بدا أنه مدروسٌ في كلّ فاصلةٍ من فواصله. مستعيدًا المواقف التي سبق أن أعلنها وترجمها في الميدان مطلع العام، قال السيد نصرالله بوضوح أنّ "حزب الله" سيردّ على اغتيال القنطار في الزمان والمكان وبالطريقة التي يراها مناسبة، وذلك بعد أن حمّل الجانب الإسرائيلي المسؤولية عن اغتياله يقينًا، في رسالة أراد من خلالها القول أنّ تبنّي الجانب الإسرائيلي للجريمة أو اختبائه خلف إصبعه لن يغيّر في الواقع شيئاً.

ولعلّ اللافت في هذا السياق أنّ الأمين العام لـ"حزب الله"، وفي مفارقة يجدر التوقف عندها، خصّص حيّزاً من خطابه فقط لعملية الاغتيال، بخلاف ما توقّع كثيرون، بل إنّه حرص على أن يكون كلامه في هذا الموضوع بالتحديد "مقتضباً" و"محدّداً" حتى يحقّق الغاية المنشودة منه، فهو اكتفى بالتأكيد على حق المقاومة بالردّ كيفما كان وأينما كان، وبالقول أنّها ستمارس هذا الحق، تاركاً "الصديق والعدو" يطلقان العنان لمخيّلتهما ليفهما كلامه كما يريدان.

أكثر من ذلك، كان واضحًا من كلام السيّد أنّه لم "يبقّ البحصة" بالكامل، بل ترك المزيد للقادم من الأيام، حيث سيكون له أكثر من محطة لكلّ منها مقالها، ويندرج ذلك وفق المراقبين في سياق "الحرب النفسية" التي بات "حزب الله" يتقنها جيّدًا، بل يتفوّق فيها على عدوّه بدرجة امتياز، خصوصًا أنّه يحمل دعوة واضحة للجانب الإسرائيلي بعدم "التهليل" لما اعتقده "انتصارًا" وقد حقّقه، بل التحسّب لما هو "آتٍ"، وفي ذلك تكتيكٌ ناجح لا شكّ أنّه يحقق هدفه المنشود، سواء أتى في القريب العاجل أو أرجئ لوقتٍ آخر.

التصعيد آتٍ

عمومًا، يستبعد المراقبون أن تكون الساحة اللبنانية مقدمة على "سخونةٍ غير منظورة" في القادم من الأيام، ولو كان ردّ "حزب الله" حتميًا، من دون قيودٍ أو شروطٍ لا زمانيّة ولا مكانيّة. برأيهم، فإنّ إسرائيل التي خرقت قواعد الاشتباك المعمول بها في سوريا من جديدٍ، فتحت أبواب "المجهول" على نفسها على مصراعَيها. لن يكون "الثأر" ممكنًا فقط في أيّ توقيتٍ يرتئيه "حزب الله"، بل في أيّ مكانٍ في العالم، من لبنان إلى سوريا وصولاً إلى ما يخطر وما لا يخطر على البال، على حدّ سواء.

رغم ذلك، يسود الاعتقاد أنّ "التصعيد المرتقب" سيبقى محدودًا، وإن كانت كلّ الاحتمالات تبقى واردة دائمًا وأبدًا. ينطلق أصحاب هذا "المنطق" من أنّ "الحرب" لا تناسب أحدًا في هذه المرحلة، وإسرائيل قبل غيرها، هي التي ترى أنّ "أجندتها" في المنطقة تتحقّق من دون أن تتكبّد أيّ عناء، في وقتٍ لا يبدو "حزب الله" مستعجلاً لـ"الحرب"، وإن كان على أتمّ الجهوزية لها في حال "فُرِضت" عليه، كما تؤكد كلّ المؤشرات، الملموسة منها وغير الملموسة.

وإذا كان المحلّلون والسياسيّون الإسرائيليّون يستندون في ترجيحاتهم عدم توسيع "المعركة" إلى ما يسمّونه "غرق حزب الله في المستنقع السوري والخسائر التي يتكبّدها هناك"، فإنّ المراقبين يعتبرون أنّ هذه القراءة منافية للحقيقة شكلاً ومضمونًا، ولكنّهم يعتقدون أنّ "مناخات التسوية" الآتية لا تزال متفوّقة على ما عداها، وما الحديث عن "حماسةٍ غربيةٍ" لـ"التسوية الرئاسية" التي ذاع صيتها مؤخرًا في لبنان سوى دليل على أنّ "مظلة الاستقرار" لن تتزحزح من مكانها، مهما كانت الظروف والمُعطيات...

الحساب لم يُقفَل...

من هنا، لا تبدو فرص التصعيد الواسع مُتاحة في المرحلة الراهنة، وإن قُرِعت طبول الحرب، التي تبقى خارج دائرة "المصالِح" حتى إشعارٍ آخر، وإن كان الجزم بهذا الاتجاه أو ذاك يبقى صعبًا حتى إشعارٍ آخر.

وبانتظار هذا "الإشعار"، يبقى شيءٌ واحدٌ أكيدًا ومحسومًا، وهو أنّ "الحساب" بين "حزب الله" وإسرائيل لم ولن يُقفَل، وأنّ "شبح" القنطار سيبقى يلاحق الإسرائيليين في القادم من الأيام، أينما ذهبوا أو اختبأوا، تمامًا كما يلاحقهم "شبح" عماد مغنية وحسّان اللقيس وغيرهما...