يتفاءل كثيرون في ظاهرة الإحتفال ب​عيد المولد النبوي​ الشريف مرّتين في عام واحد. وهي ظاهرة نادراً ما تتكرّر، وحسابها الرقمي معروف كون السنة القمرية تنقص عن السنة الهجرية بضعة عشر يوماً سنوياً. من هنا نفهم أن المواسم والأعياد ثابتة في التقويم الغربي، بينما هي متحوّلة في التقويم الهجري. لذلك نرى أن شهر رمضان المبارك «يدور» على مختلف فصول السنة، فهو حيناً في الحر وحينا في القر... إنه «يتنقل» بين شتاء وربيع وصيف وخريف.

ولقد حل المولد الشريف، هذه السنة (2015) مرتين. مرة أولى في شهر كانون الثاني الماضي منها، ومرّة ثانية في شهر كانون الأول الحالي. والبعض يذهب الى أن هذا الحلول هو من «علامات الزمان» التي يبنون عليها الكثير من الإفتراضات والأوهام والخيالات والخرافات. مع أنها مجرّد عوامل طبيعية يطيب لنا نحن، معشر المشرقيين، أن نعمل من حبّتها قبّة. ولا يزال في الخاطر عندما كان يحدث خسوف للقمر وكسوف للشمس كيف كان الناس (وخصوصاً الفتيان اليافعين) يتدافعون الى الشارع وفي أيديهم ما تيسّر من أدوات المطبخ المنزلية، فيهتفون ويزعقون ويطبّلون ويزمّرون درءاً لأخطار ليست إلاّ وهمية.

ولقد عرفت في مراحل هذه الحياة صديقاً كان من كبار القضاة في لبنان وأكثرهم علماً ومعرفة وسعة ثقافة وتطويع لغات. وكان يمتاز بعدالة مشهودة وضمير حيّ. ولا شك في أنّ الكثيرين من القراء عرفوا من أقصد، وهو كان، الى ذلك كله، يؤمن بما يصرّ على تسميته «علامات الزمان». ولقد كان ذات يوم في زيارة أحد أصدقائه وعندما جيء بصينية القهوة نهضت إبنة المضيف (وكانت في الحادية عشرة من عمرها) وأخذت القهوة من العاملة في البيت وقدمتها بنفسها الى الضيف.

وكانت أول حركة إجتماعية لتلك الطفلة، فما كان من القاضي إلاّ أن وقف صامتاً برهة، معتصراً جبينه بين كفّيه... ثم تنهّد عميقاً قبل أن يصرخ (أجل يصرخ بصوت عال) قائلاً: إنها من علامات الزمان أن يصادف أول نشاط إجتماعي لهذه الطفلة مع حضوري هنا. وهذا دليل قاطع على علامات الزمان بأنني مرسل من لدى العزة الإلهية كي أنقذ البشرية.

ومن ثم إستوى في مقعده وراح يتحدث عن مؤامرة كونية قطباها واشنطن وموسكو، والمتآمرون فيها باريس ولندن والرياض، والعملاء المنفّذون حكّام لبنان.. والغاية منعه (هو شخصياً) من الوصول الى رئاسة الجمهورية لينقذ العالم (ومنه لبنان بالطبع) فيلاشي الفتن ويمنع الحروب، ويحقق رفاء البشرية.

وهذا القاضي الذي إنطلق من حركة بسيطة اراد أن يسبغ عليها تعبير «علامات الزمان» ومن دون أي مسوّغ حق، منطلقاً من أوهام لديه فعلت فعلها في عقله... هذا القاضي ذاته كان عندما يجلس في قوس المحكمة يتحوّل الى كتلة من العلم والذكاء والخبرة والضمير والوجدان...

سبحان اللّه!

وانني أعرف غير نموذج من هؤلاء الذين يؤدّي إختلال وظيفي في عقولهم الى إعتبار أنفسهم مرسلين لإنقاذ البشرية ولكن ثمة مؤامرات دولية عظمى تقف حائلاً دون تحقيق رسالتهم.

وقد يكون للبحث صلة عن بعض النماذج المماثلة.