شهدت الأشهر الماضية تحوّلات استراتيجية ومتغيّرات جيوسياسية بارزة في المنطقة والعالم، وخاصة في مباني العلاقات الدولية التي كان آخرها قطع التواصل الدبلوماسي بين ​إيران​ والسعودية. ولكن قبل تتبّع مسار الاضطراب العلائقي الدولي ورصد مستجدّاته، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الحراك العالمي اليوم تنازُعي تغالُبي قائم على الصراعات بين الدول، وتغلب عليه البراغماتية النفعية التي تجعل الأطراف المتصارعة تُرسي تسويات لمصالحها، وكذلك فإنّ هذه المتغيّرات مترابطة بتفاصيلها وفي سياقها العام.

فإذا رصدنا المتغيّر العلائقي الأميركي-الروسي في المنطقة، سنجد الملف النووي الإيراني قد شكّل خط تماس بين ​روسيا​ وحلفائها من جهة وأميركا والغرب من جهة أخرى. كما أنّ الأزمة السورية كانت بمثابة منازلة بين هذين المحورين المتصارعَين، مما حدا بالولايات المتحدة الأميركية إلى السعي لفرض عقوبات اقتصادية على روسيا وتشويه صورتها في العالم. وفي المقابل، فإنّ روسيا لا تتوانى عن المُضيّ قدُماً في تقليص الامتداد الأميركي في المنطقة، متمتّعةً بوضوح الرؤيا والموقف الثابت إزاء الملفّات المصيرية في ما يخصّ سوريا والرئيس ​بشار الأسد​ أو حلفائها وعلى رأسهم إيران، بينما الأميركي يشوب موقفه التردّد والتشويش والتخبّط في التعامل مع هذه الملفّات. وهكذا فإنّ مسار العلاقات الأميركية الروسية الذي اتسم على مدى سنوات بالحرب الباردة قد انتقل إلى حرب فاترة تزداد سخونتها تحت وقع الإجبارات والتحوّلات الميدانية في الأرض السورية. فالجيش السوري وحلفاؤه أمسكوا زمام الأمور في الميدان الجغرافي الذي أريد له أنْ يكون بوابة العبور إلى ضرب عناصر الاقتدار في المنطقة وتحقيق مشروع التقسيم وفق الترسيمة الأميركية، الهادفة إلى تفتيت الجغرافيا واستخدام التاريخ لتأسيس كيانات إيديولوجية وعرقية تمنح الكيان الإسرائيلي مشروعية وجودية، لكنّ إلحاق الهزيمة بالتنظيمات الجذعية كـ"داعش" و"النصرة" وغيرهما حال دون ذلك.

عندما حقّق التدخل العسكري الروسي في سوريا انقلاباً في موازين القوى، وحين شعرت الولايات المتحدة أن روسيا عازمة على تصفية الجماعات المسلّحة في سوريا مشفوعة بمشروعية محاربة الإرهاب، حاولت الاصطفاف مع الروس في خندق مواجهة التكفيريين. لكنّ اصطفافها هذا حمل قرينة غدرية، حيث سارعت إلى ضرب البنية الاستراتيجية للعلاقات الروسية التركية عبر الإيعاز لتركيا بإسقاط الطائرة الروسية، الأمر الذي كانت له نتائج وخيمة على العلاقات بين البلدين. وحينما أنشأت ​الصين​ البنك الآسيوي للتنمية والاستثمار الذي ينافس صندوق النقد والبنك الدوليين، مدّت أميركا يد التعاون إلى الصين من جهة، لكنها لجأت إلى تحريض الدول الأوروبية على مقاطعته، كما حرّكت لها ملف الخلاف مع تايوان واليابان، ممّا حدا بالصين إلى تسريع مفاعيل الاتحاد الأوراسي، وإبداء رغبة في التعاون العسكري مع روسيا في سوريا، والتعهّد بحماية إيران في ظل الأزمة الأميركية-الإيرانية الجديدة حول صواريخ إيران البالستية.

ولعلّ أبرز المتغيّرات المعاصرة في العلاقات الدولية هو الحلّ التسووي الملغوم للملفّ النووي الإيراني، الذي اعتبره الكثيرون تقارباً إيرانياً أميركياً. لكنّ الحقيقة وراء ذلك هي أنّ الولايات المتحدة الأميركية قد وجدت نفسها أمام أزمة عميقة إزاء تدبير قوّتها في المنطقة والعالم، وفي ظل هذه الإكراهات الاستراتيجية وجدت نفسها مضطرة إلى إيجاد منصرف لهذا الملفّ المأزوم والمزمن، خاصة بعد نفاد خياراتها بحملات التشوية الدولية ضد إيران واتهامها بدعم الإرهاب مروراً بفرض عقوبات اقتصادية عليها ومحاولة زعزعة استقرارها الداخلي وصولاً إلى تهديدها بضربة عسكرية. لذلك سعت أميركا إلى إرساء قواعد الاتفاق النووي ظنّاً منها أنها بذلك يمكنها احتواء إيران وضبط برنامجها النووي، وبالتالي تحقيق مكاسب لها في المنطقة عبر هذا الملف. لكنّ الأميركي يتعامل دائماً بذهنية غدرية حتى مع حلفائه وأدواته، فلم يكد يقدّم ضمانات إيجابية اتجاه إيران حتى ذهب إلى التصعيد في سوريا وإيجاد مشكلة أعقد على خلفية الصواريخ البالستية الإيرانية وصولاً إلى توتير العلاقات بين السعودية وإيران، والذي لا تخفى عنه البصمات الأميركية، حيث سلكت المسلك الغدري نفسه الذي سلكته مع روسيا والصين.

وعلى ضوء المسار السابق للسياسة الأميركية، يمكننا قراءة وفهم ما آلت إليه العلاقات الإيرانية السعودية، خاصة وأنّ هذه الأخيرة هي الحليف الأكثر التصاقاً بأميركا، والتي تعمل لديها كوسيط أمن-استراتيجي وجيوسياسي في المنطقة. إنّ هدف إعدام الشيخ ​نمر النمر​ في هذا التوقيت هو إيجاد انشقاق إقليمي بدأ يتصاعد مع إعلان دول خليجية وأفريقيا قطع علاقاتها مع إيران تماشياً مع المخطّط السعودي، وكذلك صبغ الفتنة الطائفية بين السنّة والشيعة بصبغة إقليمية ودولية رسمية بعد فشل تحقيقها على مستوى الجماعات التكفيرية المسلّحة. تكمن خطورة هذا الأمر في كونه قد يشقّ الصف العربي والإسلامي إلى شقين ساخنين: حلف سنّي سعودي خليجي مع بعض دول أفريقيا الإسلامية وقد تنضمّ إليه مصر، وحلف شيعي يحوي إيران و​العراق​ وسوريا وجزء من مكونات اليمن ولبنان، ممّا يجعل الاحتقان المذهبي والسياسي يتجاوز حدود الجغرافيات الضيّقة والمشتعلة في سوريا والعراق واليمن على مستوى قتال عصبوي، إلى تضارب إقليمي ودولي على صعيد جيوش نظامية. لكن يبقى هذا التصوّر بعيد الحدوث في المدى المنظور، لما له من آثار كارثية على مستوى العالم، على أن يتخذ طابعًا حادًا في الحرب بالإنابة على الساحات اليمنية والعراقية والسورية. وسيكون لهذا الانقطاع في العلاقات الإيرانية السعودية انعكاس مباشر على الساحة اللبنانية، حيث ستكون أولى مفاعيله عدم انتخاب رئيس للجمهورية إضافة إلى تصعيد حدّة الخلافات السياسية والخطاب المذهبي.

إذن، الأنساق الدولية اليوم تتمايز وفق نُظمتين متصارعتين، تجعل بنية العالم تنقسم إلى معسكرين متنازعين، خاصة وأنّ أميركا تقود وراءها الغرب ومعها أدواتها في الشرق الأوسط إزاء معسكر بدأت تكتمل عناصره من روسيا والصين وإيران وحلفائهم. ووفق دراسات مراكز الاقتصاد السياسي التي تحدّثت عن عجز مالي في العالم يتجاوز المئة تريليون دولار، ترتفع معدّلات توقّع الاصطدام بين المعسكرين الغربي والشرقي إلى نسبة عالية.

* مؤسس علم الأنتروستراتيجيا الدولية