تحتار ريشتك وتحمرّ وجنتاها إذ تغطّها في محبرة دبي، لسببين:

السبب الأوّل أنّك حيثما وكيفما شددت أناملك وحككت عقلك لتكتب، تشعر أنّ ما تكتبه لا يعبّر، وهو قد يكون صالحاً للتمزيق المتكرّر أو للDelette. وتجد نفسك أمام تجربة حضارية، مجبولة بنسغ الشعر والأحلام، بالغة الجدّة لأنّ المواطن في الإمارة إنسان معزّز موفور وسابق لكلّ رأسمال. دبي، إذن، قرية عجائب، ويتجاوز مداها أيّ حيّزٍ كتابي ضيق. لا تنام إلاّ في رأس شيخها مثل ومضة السحر أو عصير الخيال والأحلام المتحقّقة، في ميادين من التنمية الشاملة والتقدّم الهائل والتطوّر الزئبقي السريع الذي لا يمكن لحبر إلتقاط قفزاته المتجاوزة رتابة الزمان المتراخي، وعلى كلّ المستويات.

أليست هي اللوءلوءة اللامعة في الخليج لعيون المدن في الشرق والغرب وفي مآقيها قصائد إعجاب وتنافس وغيرة سريّةً أو معلنة وسؤآل واحد: كيف لهذه الإمارة أن تكون الأولى في صفّ المدن؟

وهنا أروح أستعيد ما قاله الفيلسوف الأوّل أرسطو تحت قبب أثينا، وهو يرتّب درجات السلم للفنون البشرية في العالم واضعاً الموسيقى في أعلى الدرجات، ومعتبراً بأنّ إبداعات البشر من الرقص الى الرسم الى النحت والغناء والشعر كلّها تقف على رؤوس أصابعها وتمطّ أعناقها لتتطلّع الى فوق وتصغي الى فن الموسيقى فتستكين. وتسأل نفسك من جديد: لماذا لا تسمّي دبي "سمفونية الشرق الجميل"؟ . دبي كما الموسيقى في دبيب الحضارات، تعيدنا الى شجن القصبة الأولى في قيظ الصحراء، وتحوّلت في عشرٍ من السنين الى لغة عالمية تتطلّع نحوها عيون العرب والإقليم والعالم فتكاد ألسنتها تنطقها بلغة أهل الضاد.

ها هي دبي أمامك. تفرّس بها. زرها. إعشقها واحدة هادئة متعددة التجارب والإبداعات في الحكم. تستقبلك، ببسمة طافحة بالرضى والإحترام والسلام والبساطة، وتأخذك برفقٍ الى العمل والهدوء والإطمئنان، الى وسادة المستقبل غير المعهودة في مفاهيم المدن القاسية للحكم المعاصر حيث للسلطة مدارجها ومبانيها وطقوسها وألوانها وحدودها وأعباءها الكبرى.سترى نفسك ماشياً على رؤوس أصابعك كي لا تزعج حضارتها الراقية، وستمطّ عنقك لاإرادياً وترفع رأسك الى فوق نحو شهقة دبي الحضارية في كبد السماء.

أمّا السبب الثاني للحيرة والإحمرار فقائم في الحبر، حبرنا العربي الراهن، في الزمن الخائف الملفوف بتداعيات"الربيع العربي" وعقدة الإرهاب الكونية، وعلى وجه الإجمال، قد يلامس حبرك الإرتباك الذي لا يمحى، أمام المفارقات الهائلة في الحكم الذي يجعل من القيم والإبداع والتواضع والإلتصاق بالأرض وقعود الحاكم مع المواطنين والعاملين فوق صفتحها حصيراً في حكم دولة صغيرة مشرّعة النوافذ على البناء والحضارة والتحليق الدائم. كانت وما زالت عبرةً ونموذجاً للعرب وللتاريخ العربي بكل تعقيداته وتداخلاته ، وفي عصرسقط ويسقط فيه، العديد من أهل السلطة البعيدين من الناس في أرجائهم بحيث تتداعى تماثيلهم وصورهم التي ملأت ساحات عواصمهم والمدن.

في 4 يناير 2006 مسح الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الدمعة التي ذرفها على شقيقه الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم ، ولمعت بين أصابعه فكرة النهوض ودمغتها كما المرايا الماسيّة الواعدة. وفي الخامس منه، تداخلت ملامحه بملامحها. ولأنّ الله سبحانه وتعالى، خلق الإنسان بفمٍ واحد ولسانٍ واحد وأذنين، كان يمكن لأبي راشد أن يستشفّ إستلهام إستراتيجية الإصغاء والتعلّم والقرار والعمل بدلاً من الكلام وكثرة الكلام، الى درجة أنّ الإمارات صارت منبع المفاجآت للعالم ومكانه وزمانه المقيم في الحاضر والمنصرف نحو التخطيط للمستقبل على الأرجح، لا بالخطب والأحاديث والوعود في المشروعات والإنجازات بل بتحقيق الأفكار وجعلها وقائع ماثلة وملموسة ومعاشة من الجميع.

من مشروع الى مشروع، بلغ الشيخ أبا راشد ودبي معاً من العمر في الحكم والمسؤوليات والنهضات والمنجزات الباهرة عقداً مثقلاً بالعقود الناجحة، فالمنطقة لا الإمارات وحدها، كما قال في إحدى مقابلاته:" ليست على أجندتي، إنها أجندتي". والمعروف أنّ دبي جزيرة الإعلام والتواصل بالأصوات الخافتة.

هذه اللحمة بين الحاكم ووطنه وشعبه ومنطقته ظاهرة راقية قد تكون فريدة في بلادنا، لكنها تجربة لافتة ومميّزة بالفعل وأكثر تميّزاً وإشراقاً في هذا الزمن العربي الضاغط. إنّها بإختصار تجربة التجديد عندما تضيف الجديد الى القديم ليبدو ناصعاً يقبل الآخر ولا ينسف الماضي، وتجربة المعاصرة عندما تجعل موطنك في قلب العصر ورمزاً للعصرنة، كما أنّها تجربة التحديث التقني والعمراني والفني والإقتصادي والمواصلاتي والسياحي في تحولات المكان والزمان والإنسان الذي تدفعه إلحاحات التنمية نحو الحداثة بالمعنى الفكري والعقلي. كلّ هذا يجعل الحضارة تجربة زاخرة بالإنجازات المترابطة كما أفراد العائلة في حالٍ من التواصل المباشر الدائم. يعصر الحاكم، من طراز حاكم دبي، روح العصر وآخر مكتشفاته وطاقاته لخدمة مجتمعه وأهدافه بما يجعل من الإمارة هيكل الإنسان ذكراً وأنثى، في عصر تكاد تنقرض فيه المفاهيم والمباديء الإنسانية.

لإمارة دبي،إذن، إسم آخر يعرفه أهل الأرض، هو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات ورئيس مجلس الوزراء حاكم دبي وإنسانها مهما كان وأينما كان زاده التعليم والمعرفة والثقافة والإطلاع. لا حيّز في مكانه للتماثيل والأّبهة بل للمساواة والعدالة وسيادة القانون وهي أعمدة بناء الدول والشعوب والحضارات الناجحة. رجل مسكون بدبي وهي مسكونة به على الدوام. لا للفصل بينهما. صورتها وصورته خرجا من رحمٍ واحد ونسجا ثياباً واحدة هي النجاح ولأجله تراه في خدمة الجميع، غير مشغولٍ بنفسه بل دائم الإنشغال في نسج جماليات وإنجازات وعطاءات على المستويات كلّها التنموية والإقتصادية والإنسانية أو المبادرات لدبي مدينة المستقبل.

في أغسطس2010، قالت زوجتي بعدما وصل بنا مصعد برج السي إن في تورنتو الكندية الى البقعة الزجاجية التي يبدو منها المارة من إرتفاع 553 متر بحجم النمل: نحن في أعلى برج في العالم. قلت: نسيت برج خليفة يا مي في دبي الذي وصل الى 828 متر وهو أعلى بناء شيده الإنسان. أجابت: تسابق أبراج. قلت: لا. تسابق حضارات ودول ونحن عرب في قلبها.

أستاذ مشرف في المعهد العالي للدكتوراه، بيروت