ربح العماد عون معركة توحيد المسيحيين منذ حرب الصفرا عام 1980 التي شنّها بشير الجميّل على حزب "الوطنيين الأحرار"، وألغى التنظيمات العسكرية ووحّدها، ومن ذلك الوقت تشظّى المسيحيون وتناحروا، فكان انتصار سمير جعجع على "الحلف الثلاثي" الذي اخترق المناطق الشرقية سياسياً وعسكرياً عبر إيلي حبيقة، ثم حرب الإلغاء بين عون وجعجع، ثم التناحُر بين الكنيسة (بكركي) والقوى السياسية مداورة، ولم يستطع المسيحيون إنجاز المصالحة المسيحية الشاملة وصولاً إلى وحدة الموقف والقرار في مواجهة لهيب المنطقة الذي يهدد الوجود المسيحي المشرقي بوجه عام، والوجود المسيحي اللبناني بشكل خاص، بعد إغراق لبنان بالنازحين السوريين، بالإضافة إلى الوجود الفلسطيني.

بعد توحيد موقفي "القوات" و"التيار الوطني الحر" عبر ورقة النوايا التي أدت إلى تنازل قائد القوات اللبنانية عن الترشيح لصالح العماد عون، والذي أدى إلى "دوخة" سياسية أصابت القوى السياسية اللبنانية، فأرغمها على التريُّث في إعلان موقفها للاطلاع على ما يجري في الكواليس اللبنانية والإقليمية والدولية، وهل أن بعضها خُدع أو أنه خارج دائرة الفعل والتأثير أو المشورة، مع أن بعضهم يحاول تبسيط المسالة بأنها ردة فعل حادة ومتهوّرة من جعجع ضد الرئيس سعد الحريري، الذي طعنه و"أذلّه" أمام جمهوره عندما رشّح النائب سليمان فرنجية دون أن يستشيره أو "يقف على خاطره" كما يقال.

لاشك أن السياسة تتأثر بالأمور الشخصية والمصالح، لكن يجب التوقُّف عند ما قالته "القوات اللبنانية" على لسان رئيسها "إسرائيل هي عدونا"، وهذا انقلاب جوهري يتناقض مع الموقف التاريخي لـ"القوات" ونظرتها إلى "إسرائيل"، والتي وصلت إلى دائرة التحالف والتعاون في الحرب الأهلية واجتياح 1982، وهذا إنجاز يسجَّل لـ"القوات" وللعماد عون عرّاب هذا الإعلان، و"سلفة سياسية" لحزب الله.

إعلان القوات تمسُّكها باتفاق الطائف وفيه حق لبنان باسترجاع أراضيه المحتلة بكل الوسائل المشروعة، ومنها المقاومة المسلحة، "سلفة" ثانية للمقاومة، وربح إضافي، وتوسعة الغطاء السياسي لعملها في لبنان عابر للطوائف والمذاهب، بحيث إنها حازت على شبه إجماع مسيحي عبر التيار الوطني و"القوات اللبنانية" و"تيار المردة" أصلاً، وعدم ممانعة "الكتائب" بشكل جهوري.

استطاع العماد عون جذب "القوات" إلى ضفاف موقفه السياسي، ولأن الاتفاق بين طرفين لا يمكن إنجازه إلا بالتنازلات والتضحيات المتبادلة، فقد استطاع فريق "عون - جعجع" أن يُحرز ما يسمى اتفاق "ربح - ربح" وتكريس الثنائية المسيحية التي تقود المسيحيين، والتي سترث ثنائية بيار الجميل وكميل شمعون؛ بما يشابه الثنائية الشيعية، مع بعض الفوارق المرحلية بوجود أحزاب أخرى وشخصيات مستقلة، لكن إلى حين تعميق التعاون وصولاً إلى تصحُّر القوى المناهضة لهذه الثنائية.

يحاول العماد عون الوصول إلى سدة الزعامة المشرقية بالتعاون مع حليفه حزب الله وما يمثل في حلف المقاومة، عبر تسهيل الطريق أمامه في سورية والعراق إضافة إلى إيران، ليكون زعيم المسيحيين مشرقياً، ودون اعتراض روسي، نتيجة اختلاف المذاهب، بل لتقاطع المصالح المشتركة بين روسيا ومسيحيي الشرق الذين أصيبوا بخيبة أمل بعد تخلّي الغرب عنهم وتركهم طرائد وسبايا للتكفيريين المدعومين من الخليج، ولذا كان تنازل عون بالمصالحة مع "القوات" لتحقيق وحدة الموقف المسيحي، فيُعطي جعجع موقعه الريادي في المشهد السياسي المسيحي أولاً، واللبناني ثانياً، ويتكىء عليه كرافعة للوصول إلى سدة رئاسة الجمهورية أولاً، والزعامة المشرقية ثانياً، مقابل إهدائه نسخة عن مفاتيح العلاقة مع حزب الله بعد إعلان براءته من العدو "الإسرائيلي"، وهذا ماسيسهّل على "الحزب" الانفتاح الهادىء والمقنَّن باتجاه "القوات".

وهنا يُسأل: هل ذهب الوزير فرنجية ضحية مبادرة سرية غير معلنة وبقيت ضمن التسريب؟ وهل تخطىء قوى "8 آذار"، خصوصاً المقاومة، بترك الوزير فرنجية يدير معركته الرئاسية وموقعه المسيحي منفرداً، أم عليها واجب الاحتضان والحماية، وإجراء المصالحة مع العماد عون حتى لايغتال سياسياً بعد اغتيال عائلته مادياً؟

مسؤولية المقاومة بجناحيها "حركة أمل" وحزب الله أن يكونا الحضن الدافىء للوزير فرنجية، والحضن الذي يستوعب وحدة الموقف المسيحي وفق ما يقول الإمام الصدر "إن أفضل وجوه الحرب مع العدو الإسرائيلي هي الوحدة الوطنية..".

لقد ربح العماد عون معركة حماية الوجود المسيحي والوحدة المسيحية، وسواء ربح رئاسة الجمهورية أم لم يربح، فهذا تفصيل بسيط يضاف إلى إنجازاته، وربح سمر جعجع معركة إسقاط الترشيح الثلاثي كما ربح معركة إسقاط الحلف الثلاثي!