في ظل التحضيرات القائمة لعقد ​مؤتمر جنيف​ الثالث، المخصص لبحث ​الأزمة السورية​، كانت لافتة التصريحات الأخيرة الصادرة عن بعض المسؤولين الأميركيين، بالإضافة إلى أخرى مصدرها الشرق الأوسط، خصوصاً أنها تعكس الرؤية لمستقبل الخرائط الذي يُرسم في دوائر صنع القرار، إنطلاقاً من الحرب المعلنة على المنظمات الإرهابية.

من حيث المبدأ، بات الحديث علنياً عن إنتهاء مفعول إتفاقية سايكس-بيكو، وبالتالي الحاجة إلى أخرى تعكس التوازنات الجديدة في الوقت الراهن، والأمر نفسه ينطبق على إحتمال التدخل الأميركي في سوريا والعراق، إنطلاقاً من تصريحات وزير الدفاع ​آشتون كارتر​ ونائب الرئيس ​جو بايدن​، بالرغم من إستبعاد الرئيس ​باراك أوباما​ هذا الخيار، بالتزامن مع الإعلان الأوروبي عن رفع مستوى تهديدات تنظيم "داعش" الإرهابي في قلب القارة العجوز.

في هذا السياق، لا تأتي المواقف المتعددة بصورة متناقضة، بل على العكس من ذلك يكمل بعضها البعض الآخر، ومن هنا يمكن فهم كلام رئيس إقليم كردستان العراق ​مسعود البرزاني​، عن الحاجة إلى إتفاق دولي جديد يمهد الطريق نحو إقامة دولة كردية، بعد أن أثبتت الثقافة الموجودة بالعراق أنها ليست ثقافة تعايش، متحدثاً عن ضرورة البحث عن بدائل أخرى، تنسجم مع رؤية بايدن لعراق فيدرالي قوي، يقوم على أساس تقسيم البلاد إلى 3 دويلات عرقية ومذهبية.

الإتفاق الدولي الجديد، الذي يتحدث عنه البرزاني، يتطلب قوة دفع تكون قادرة على فرض أمر واقع جديد، أساسه كيفية القضاء على الجماعات الإرهابية من جهة، والقوى التي من المفترض بها أن تتولى إدارة المناطق المحررة من جهة ثانية، في ظل المعلومات التي تضخ عن أن الحل يتطلب بناء دولة سنيّة حديثة، تقتطع أجزاء من الأراضي السورية والعراقية معاً، وهو ما جاءت الترجمة الحرفية له على لسان وزير الدفاع الأميركي، الذي أعلن عن نشر قوات نخبة برية في سوريا والعراق، في إطار إستراتيجية محاربة "داعش"، لن تكون بالحجم الذي يخولها الحلول مكان تلك المحلية الموجودة هناك، وهذا ما أكده بايدن عبر التأكيد بأن بلاده وتركيا مستعدّتان لحل عسكري في سوريا، إذا لم يكن التوصل لتسوية سياسية ممكناً، بعد أن قدم الدعم لأنقرة في حربها على حزب "العمال الكردستاني".

في هذا الإطار، تأتي معارك مدينتي الرقة السورية والموصل العراقية على رأس قائمة الأهداف، في ظل الأهمية الرمزية باعتبارهما من معاقل تنظيم "داعش" الإرهابي، أي أنهما يمثلان، في الصورة الإعلامية والدعائية، ما يمكن وصفه بـ"رأس الأفعى"، ومن الناحية الزمنية بدأ تحديد المواعيد المحتملة من قبل بعض الجهات الفاعلة على المستويين الدولي والإقليمي، لكن السؤال الأبرز هو بأي شكل سيكون التحرير وتحت أي عنوان، والأهم ماذا عن النتيجة السياسية في المرحلة اللاحقة؟

إنطلاقاً من الهجوم المستمر على قوات "الحشد الشعبي" في العراق، بالتزامن مع إستهداف "القوات الكردية" في سوريا، تأتي صورة المعارك المستقبلية في الموصل والرقة، لا سيما بعد إعادة قراءة ما حصل في الرمادي، حيث تم تسليم المدينة بعد تحريرها من "داعش" إلى الشرطة المحلية، الأمر الذي كان قد حصل في تكريت في السابق، وهو ما يعتبره رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي "قصة نجاح"، على إعتبار أن السكان المحليين يرون بأنهم قادرون على إدارة مدينتهم، لكن في الرقة والموصل سيكون الدور التركي حاضراً بقوة، إلى جانب قوات النخبة الأميركية التي ستقوم بالدور الإستشاري، فأنقرة سبق لها أن أرسلت قوات عسكرية إلى معسكرات بالقرب من الموصل، وهي تعمل على تحضير البيئة المناسبة لتبرير أي تدخل لها في الشمال السوري، تحت عنوان مكافحة التهديدات الإرهابية، المتمثلة بـ"داعش" والأكراد معاً.

بالعودة إلى معركة تحرير الرمادي من "داعش"، التي تأخر موعد إنطلاقها أشهر عدة بسبب الرغبة الأميركية في إبعاد "الحشد الشعبي" عنها، وشاركت فيها قوات خاصة أميركية عن طريق تقديم أنواع عدة من الدعم، هي لم تبدأ قبل تحقيق هذا الهدف، هذا الأمر الذي من المرجح تطبيقه في الرقة والموصل، يعني بداية تطبيق المرحلة الثانية، التي عبّر عن رؤيتها البرزاني، القريب من أنقرة وواشنطن معا، بشكل واضح، أي بعد تسليم المناطق المحررة إلى الشرطة المحلية سيأتي طرح الحاجة إلى إتفاق دولي جديد يقوم على أنقاض سايكس-بيكو، لكن ماذا عن الموقفين السعودي والإيراني؟

في ظل إحتدام المواجهة السياسية بين الجانبين، إرتفع منسوب الإحتقان المذهبي على نحو غير مسبوق، صب مباشرة في خدمة المشروع السابق ذكره، وطهران لم تكن تملك في المرحلة السابقة أي خيارات بديلة قادرة على قلب الطاولة، لكن المفارقة تكمن في السعي الخليجي إلى نقل كرة النار إلى أراضيها، عبر دعم التوجهات الإنفصالية في الأهواز، ذات الأغلبية العربية، لكن الرياض نفسها لن تكون قادرة على تحمل هذا السيناريو، الذي يدعم خيار التقسيم في داخلها، بسبب التوتر القائم في المنطقة الشرقية منها، بالإضافة إلى أن الدولة الثالثة في العراق، التي ستكون ذات أغلبية شيعية، ستكون مباشرة على حدودها.

في المحصلة، دخلت المنطقة اللحظات المصيرية، التي ستكون أساسية في رسم صورتها المستقبلية، بعد حسم كل جهة إقليمية ودولية رؤيتها الكاملة، لكن من المؤكد أن الأثمان ستكون باهظة جداً، ومن الضروري مراقبة الموقف الأوروبي.