بعد المصالحة "العونية - القواتية" وتزكية العماد عون من معراب، قد يقرأ اللبنانيون في صمت الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، رغبة بالنأي بالنفس عن الساحة المارونية من توافق أو صراع، ولو أن القطبين عون وفرنجية عزيزان على المقاومة، وبإمكان السيد نصرالله أن يحسم المحسوم سابقاً، ويكرر أن مرشح حزب الله هو العماد ميشال عون، أو أي مرشح آخر "تباركه" الرابية، لكن مشكلة إملاء الكرسي الشاغر في بعبدا تصطدم بلعنة التمديد حتى للكراسي الخشبية الفارغة، وليس الأمر مرتبطاً بتوافق المسيحيين فيما بينهم، ولا بموقف حزب الله من الاستحقاق، بل من الواقع المؤلم الذي يتخبط به الشارع السُّني في لبنان، والذي استوجب التمديد عامي 2013 و2014 للمجلس النيابي، لأن هذا الشارع بات على ما يبدو بلا رأس رئيسية، وبات رهينة الرؤوس المتناطحة على وقع التظلم المذهبي "كلما دق الكوز بالجرة"، وبات السُّني الأقوى من يتمذهب على باقي المذاهب أكثر، ومن يحرك حناجر بعض المشايخ أكثر على وقع ما يحصل في سورية!

قبل ترحيب الرئيس سعد الحريري بالمصالحة بين العماد ميشال عون وسمير جعجع، أطلّ النائب أحمد فتفت وأعلن أن الخلاف بين "المستقبل" و"القوات" لم يعد تكتيكياً، بل غدا استراتيجياً؛ على ضوء تسريبات هدد فيها الحريري حليفه جعجع بدفع الثمن، خصوصاً ضمن الشارع المسلّم لـ"تيار المستقبل". وبعد إطلالة الحريري و"مباركته للصلحة المسيحية" وإعلانه الاحتكام للمجلس النيابي واستمراره في ترشيح فرنجية، كانت الإطلالة النارية للوزير أشرف ريفي في ذكرى الرائد الشهيد وسام عيد، والتي حملت عداءً لخيارات الحريري أكثر مما حملت حقداً على عون وفرنجية وسورية وإيران.

وإذا كانت خطوة جعجع في تأييد عون للرئاسة تحتمل تأويلات الرغبة بالوراثة الرئاسية لاحقاً، وبوراثة الشعبية العونية على المدى الطويل، كما يحلو للبعض أن يجتهدوا، فإن وراثة الوريث للحريرية السياسية تتمّ من "جماعته"، ليس فقط في استغلال غيابه عن لبنان، بل في عودته المستحيلة حالياً للملمة الحلقة الضيقة، وترويض المتمردين على قيادته لـ"الأزرق"، الذي خفّ بريقه في كل المناطق اللبنانية، لدرجة أن الوزير ريفي قطف عبر الشحن المذهبي بمواجهة حزب الله، شعبية طرابلسية تحمله إلى المجلس النيابي دون الحاجة إلى "تيار المستقبل"، الذي تبرّأ منه أكثر من مرة.

وإذا كان الرئيس الحريري قد سار بالنائب فرنجية بمباركة فرنسية - سعودية بعد سقوط رهان إسقاط الأسد وسقوط "14 آذار"، فإن النائب فرنجية قد "استعجل على نفسه"، وربما ظن أن قوة الرئيس الحريري هي في عدد نوابه، الأصليين منهم والمصادَرين، فـ"كبا" لمجرد قبوله هذا الترشيح، لكنه سقط في التجربة عندما اتكأ على كرسي عشاء المصيطبة، وأعلن عن عدم إمكانية إعطاء ضمانة لقانون انتخاب عادل ينصف المسيحيين ويرفع عنهم "ذمية" الحريري - جنبلاط، وهو فعلاً سيكون عاجزاً مادام هو مرشح الحريري ويكاد يكون من "أهل الذمّة"، ولا يستطيع حتى من كرسي بعبدا فرض قانون انتخاب هو بعهدة النواب واللجان، وعلى طاولات الحوار.

ومع إعلان النائب فرنجية استمراره في ترشيح نفسه، رداً على ترشيح جعجع لعون، كاد يسقط في التجربة الثانية من خلال حزم الحقائب إلى الفاتيكان لنيل "البركة البابوية"، بحضور الراعي الموجود في روما، لكن إلغاء الرحلة في اللحظات الأخيرة هو العقلانية بعينها، لأن بابا الفاتيكان في نظر بعض من يقبضون على الملف الرئاسي في لبنان هو "كافر" وليس بموقع أن "يبارك" رئيساً، ولو كان الكرسي للمسيحيين، إضافة إلى أن الحجم السياسي للكرسي الرسولي لم يكن يوماً أقوى من مركز الأمين العام للأمم المتحدة، المسموح له حصراً أن "يبدي القلق ويدين ويستنكر".

الملف الرئاسي في لبنان هو أصغر الملفات الإقليمية، وآخر الهموم والاهتمامات، وإذا كان الرهان دائماً على انفراج سعودي - إيراني، بمباركة أميركية غربية للإفراج عن هذا الملف، فإن ساحة الصراع بين "الجبارين الإقليميين" قد اتسعت، ولا تتسع حالياً للملف اللبناني، لا بل بات أي حدث إقليمي يشغلهما عن لبنان، سواء تقدّم الجيش السوري في اللاذقية واستعادة بلدة "ربيعة" المحاذية لتركيا وتطهير كامل المحافظة، أو مسألة تهجير الأكراد للعرب من كركوك تمهيداً لإعلان الحكم الذاتي الكردي، أو السجال بين السعودية والعراق على خلفية تطاول السفير السعودي في بغداد على قوات "الحشد الشعبي" في منطقة الأنبار، وصولاً إلى تكرير وزير الخارجية السعودي نية المملكة شراء قنبلة نووية من باكستان، مدفوع ثمنها سلفاً، في حال أنتجت إيران قنبلتها النووية.

هي نصيحة للمراهنين على رئيس لبناني في الوقت الحاضر، أن ينتظروا، وقد يطول الانتظار، وأية متغيرات تحصل على الأرض السورية ستنعكس على المواقف السعودية الإيرانية إيجاباً أو سلباً في الملف اللبناني، وتحرير بلدة مثل "ربيعة" السورية يؤثر على سير الملف الرئاسي اللبناني أكثر مما يحصل في كل عواصم القرار.