يتعقَّد مشهد الرئاسة الاولى في لبنان أكثر فأكثر، وإن كان ترشيح كلّ من رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون ورئيس "تيار المردة" النائب ​سليمان فرنجية​ قد حرّك مؤقتاً الملف الرئاسي. وواقع الامر ان الطبخة الرئاسية لم يحن وقتها النهائي رغم السجالات الداخلية برمي مسؤولية التعطيل سواء على "حزب الله" او "حزب المستقبل". فصناعة الرئيس وان كانت العوامل الداخلية عنصرًا مؤثرًا او ضاغطاً فيها الا انها محكومة لفعل خارجي يقارب موضوع الرئاسة برؤية ابعد من الحسابات اللبنانية. إذ ليس من قبيل المصادفة ان يكون اللاعب الاساسي من خلف الكواليس في تسمية المرشحين للرئاسة الجنرال ميشال عون والنائب سليمان فرنجية هو اللاعب الاميركي ولو على لسان رئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​ او رئيس "القوات اللبنانية" الدكتور ​سمير جعجع​ اللذين ينتميان الى فريق الرابع عشر من آذار.

ماذا يريد اللاعب الاميركي من تسمية المرشحين الاثنين؟ يريد باختصار "خلط الاوراق" واثارة الشكوك بين الحلفاء والفرقاء وقنص اللحظة المناسبة لاختيار "رئيس ما" لا يكون العنصر الحاسم فيه "الاخلاق" او السياسة اللبنانية او الشروط والشروط المضادة. فما يريده "الاميركي" هو ان تكون الساحة اللبنانية مضبوطة على "الساعة الاميركية". بمعنى آخر لا ينبغي ان نرتقب "تطورا" في ​الانتخابات الرئاسية​ اللبنانية "لمساومات" بين اللبنانيين انفسهم او لتنازل من هذا الفريق لذاك وايضا لانسحاب مرشّـح لحساب آخر. فمؤتمر جنيف غرضه انتاج "توافقات" بين واشنطن وموسكو لرسم تصورات لمشاكل المنطقة وازماتها بدءا من سوريا والعراق واليمن. ومثل هذه التصورات تحتاج لزمن يجعل التحريك النهائي للملف الرئاسي اللبناني لا يبدأ قبل اربعة شهور. من هنا ليس من قبيل الصدفة ان يقول السيد حسن نصر الله ان ايران لم ولن تتدخل بالشأن الرئاسي اللبناني. كما انه من تبسيط الاستنتاج بان "تفاهم المسيحيين" فيما بينهم يمكن ان ينتهي بانتخاب رئيس.

ثمة حقيقة لا ينبغي تجاهلها ان ما يعوق اقامة "النظام الاقليمي" في المنطقة هو "الارهاب التكفيري" الذي اصبح "وازناً" في الحسابات لكل من واشنطن وموسكو والذي يرفده اليأس والاحباط والبطالة وعدم معالجة الاسباب الفعلية لظاهرته غربيا بقوى شبابية جديدة وببيئات حاضنة... وهكذا الاولوية هي لمواجهة ظاهرة داعش والقاعدة والتنظيمات المشابهة اميركيا وروسيا. ومثل هذه "المواجهة العسكرية" قد يكون من تداعياتها ان التنظيمات السلفية الجهادية قد تلتحق بداعش ما يجعل هذه "المواجهة" طويلة ومعقدة قد لا تكون الحدود اللبنانية بعيدة عنها من بوابة جرود عرسال. كما انه من تداعيات ذلك "نضوج" ظروف تقسيم العراق الذي تشجع عليه الادارة الاميركية تحت عنوان نظام فيدرالي يوفر لها حضورًا سياسيًا وامنيًا في المعادلة العراقية مستفيدة من الانقسامات الطوائفية ومن التوتر في العلاقات السعودية-الايرانية ومن غياب رؤية اسلامية او عربية لآفاق المرحلة القادمة.

إعطاء الوقت للحوار الذي دعا اليه السيد حسن نصرالله لعله ينتج "تنازلات متبادلة" ورئيسا توافقيا واحدا بين الاثنين عون وفرنجية يندرج في "باب الاخلاق وقيمها". ولكن مثل هذا الامر لا يدخل في اخلاقيات الطبقة السياسية التي تقيس الامور من زاوية المصالح لا من زاوية الاخلاق. والارجح ان السيد حسن نصرالله الذي دعا الى تسويق لا غالب ولا مغلوب على قاعدة "التنازلات المتبادلة" استوحى هذا التوجه من فلسفة الامام السيد موسى الصدر الذي كان يرى ان التغيير والاصلاح غير ممكنين في فترات الفتن والوضع الطوائفي المأزوم. ولذا فإن رسالة السيد حسن نصرالله الى الطبقة السياسية لن تلقى تجاوبا كما كان عليه اعتصام الامام موسى الصدر لوقف الحرب الاهلية واعتراضه على "شعار عزل الكتائب" الذي كان يرى فيه عزلا للمسيحيين... وفي هذا المجال ما يمكن ان يستنتجه المراقب السياسي ان حالة الستاتيكو اللبنانية مستمرة مع وجود "مظلة دولية" اميركية – روسية تقيه من توسّـع "داعش" لبنانيًا من دون ان يعني ذلك وقف "الاشتباك الرئاسي" في حدوده الكلامية والتصريحات المضادة ومحاولة كل طرف تحميل الآخر مسؤولية الوضع الهش. لكن بقدر ما يمضي الزمن تنجلي آفاق التسويات في المنطقة ويتم العمل على التقريب بين ايران والسعودية اميركيا بحكم كون واشنطن التي تدير التوازنات والخلافات تكون أقدر على التحكم بالوضع مستعينة بموسكو.

لا شك ان وجود المرشحين الى الرئاسة الاولى الجنرال عون والنائب فرنجية مؤشر على ان الدولة اللبنانية تبقى قائمة وإن ضعيفة ولن تصل الى مرحلة "الإنحلال الكامل" أو "التفسخ" الذي يتيح تشطير البلد. فالواضح أن واشنطن تريد الإحتفاظ بلبنان كما هو مع إجراء إصلاحات ضرورية على بناء الدولة حتى يكون ركيزتها المستقبلية لإدارة شؤون المنطقة وتوازناتها وخلافاتها. إنما ليس بالضرورة بمكان أن يكون خيار واشنطن واحدا من المرشحين الجنرال عون والنائب فرنجية علما بأن الإثنين لا يشكلان حجر عثرة على حساباتها الإقليمية. عمليا واشنطن هي التي أوحت بترشيح الإثنين. وهي بالتالي قادرة في مرحلة لاحقة على تسمية "المرشح التوافقي" الذي ترتئيه وبرضى الجميع بعد أن تكون أوضاع المنطقة قد نضجت وأخرجت "الملف الرئاسي" من يد اللبنانيين. وإلى ذلك الوقت تبقى حظوظ واحد من الإثنين عون أو فرنجية واردة في حال سلّـم الواحد منهما مصيره للآخر. وهذا أمر يقارب الإستحالة.

على من يقع اختيار الرئاسة اللبنانية بموافقة موسكو والرياض وطهران ودمشق؟ بالتأكيد اللاعبون المحليون ليسوا من صنّـاع الرئيس الذي سيحظى بغطاء أميركي وإقليمي واسع. مع ذلك من الممكن أن تلحظ واشنطن وموسكو طبيعة الإنزلاق إلى غلبة الأبعاد الطوائفية في لبنان والمنطقة والنزعة إلى إقامة أنظمة فدرالية، فنجد أنفسنا أمام مجلس رئاسي. ومثل هذا المجلس كان النائب الراحل مانويل يونس قد اقترحه سابقا لتكوينه من الطوائف الأربعة الموارنة والسنة والشيعة والدروز على أن يكون فيه الممثل الماروني متقدما. وقد تتحقق نبوءة مانويل يونس.