نحن هذا الصباح نعيش أزمة غليان وارتجال سياسي وتراشق إعلامي مخيف في لبنان. وتسألني إعلامية خريجة كلية الإعلام عبر فضائية محترمة:

لماذا لا تلغون مادة الأخلاق الإعلامية من منهاج كلية الإعلام في الجامعة؟ أكثر من ذلك تطالبني بإلغاء كلية الإعلام أو إقفالها لأنها تخرج أجيالاً مثالية انفصامية لا علاقة لها بالواقع السياسي والإعلامي الفالت والبائس خارج الأحرام الجامعية كما قالت.

تلك مسألة شديدة الأهمية والتعاظم والانفلات ولكنها على ارتباط مباشر بهوية لبنان ومعنى الحرية فيه وحدودها. وقد تستحيل معالجتها. ما عادت الصحافة مرآة في زمن تتجاوز فيه الشاشات كل السياسات. من يضبط الشاشات بعد إذا كانت السياسات لا ترى نفسها سوى في مرايا الشاشات؟

قد تكون الحرية كلمة خطيرة حتى عند التلفظ بها من دون ألف ولام تشدها نحو الخلف. هي من أصعب المحن التاريخية المستحيلة والمتكررة التي أصابت وتصيب لبنان سياسياً ودبلوماسياً وعلائقياً والتي أورثته الكثير من المشاكل مع أشقائه العرب وغير العرب. فالحرية «عريقة» لكنها فالتة على هواها ولا ضوابط لها في الألسنة والنصوص والمشادات والصور الاستفزازية. تقدم لبنان في أقصى تجلياته وكأنه ساحة مستباحة لا مداخل أو مخارج لها مرسومة أو محددة. وتقدمه لساناً مسلولاً سليطاً سياسياً وإعلامياً لا حدود لحريته، ولا روادع خلقية أو وطنية ولا حتى قومية لتهدئته أو كبح جماحه أو حتى سلطات قضائية حاسمة لتشذيبه ومحاسبته قانونياً قولاً أو كتابة.

وللساحات والمتجولين فيها من أهلها وغيرهم أعباء كبرى في التاريخ بهدف ضمان الاستقرار بحدوده الدنيا واحترام السيادة إن كان هناك نوع من التخلي عن الاحترام المتبادل بين أهالي السلطات وممثليهم وتنوعهم.

كان الأمر فلتاناً، ويتفاقم بعد الاندلاقة الهائلة في وسائل التواصل الاجتماعي التي حولت كل إنسان إلى كاتب ومصور وناشر ومنتقد ومعلق وشتام نعم شتام، لكن يظهر أن الكثير من ممتهني التعبير والتصوير اللبناني تجاوز كل حدود وأعراف وأدبيات قياساً عما حولنا وفي العالم.

ولنعترف:

لم يكن للصحافة اللبنانية هوية لبنانية كاملة على الإطلاق، بل كانت صحافة بصيغة الجمع في لبنان تحمل نتفاً من معظم الهويات الأخرى العربية والإقليمية والغربية، ويكفل الدستور اللبناني حريتها كلها. لكنها، بالرغم من هذه الكفالة، لم تكن حرة كثيراً بالمعنى العملي بقدر ما كانت تابعة أو مرهونة للسياسيين أو الحزبيين ومن خلفهم لأصحاب الأموال والأحزاب والدول. كانت صحافة في جزء عظيم منها مستأجرة من غير اللبنانيين ويديرها لبنانيون. وبطبيعة الحال، كان «لا يمكن للصحافة المستأجرة أن تخالف عقد الإيجار لأن على المأجور، عقاراً كان أم إنساناً، أن ينفذ الشروط العلنية والسرية المتفق عليها في العقد.. فتشبه الصحافة اللبنانية بسائق السيارة الخاصة التي يقودها ظاهرياً حراً فيحركها بيديه ورجليه لكنه عملياً ليس حراً لأن كل حركاته تأتيه، همساً لطيفاً أو تعليمات، من سيده المرتمي على المقعد الخلفي».

كان الصحفي وما زال يكتب للممول لا للقارئ. وينظر إلى العالم من خلال المال والهدايا والعطاءات وليس من خلال الوقائع الوطنية الموضوعية ورسالة الصحافة. وتكاد لا تُحصى معالجات الأخبار وتضخيمها، والتعتيم على النشر لحقائق كانت تؤكد رضوخ الصحافة اللبنانية في مجملها للمال والحظوة لا للحرية والرسولية. ويتضح هذا الأمر في مواثيق الشرف التي كانت تتمحور، في لبنان، من التعرض إلى المصارف أو الملوك والرؤساء، والمقدسات الدينية، على اعتبار أن الدين لا يتعاطى في الشؤون السياسية أساساً، لكنه كان وما برح بأشكاله الطائفية والمذهبية في لبنان لا يتعاطى إلا في السياسة.

كانت الصحافة تتطور وكأن الغرائز تمشي أمامها وخصوصاً في الصحافة الفنية، وهي تعود اليوم في اندلاقة فاقعة خفيفة وركيكة تخدش كل حياء ولا تقع في التسلية المطلوبة والضرورية. وكنا نجد «من أصل ثماني صفحات، أربع منها تشتعل بالعروبة والاشتراكية والتقدمية والديمقراطية وفي تشظيات لا تنتهي جعلت الناس يعرضون عن الصحافة. ليس كل محرر أو إعلامي أو معلق هو الكاتب المطلع والمثقف والمسؤول، بل هو الأجير كما الحائك والصانع والخباز وفق تسميتهم الوظيفية في وزارة العمل، غير أن الخباز يصنع الخبز لكننا لا نعرف ماذا يصنع العديد من المحرِّرين لوطنهم سوى النفخ فيما يجعل كل أمر قابلاً للانهيار.

كانت صحيفة صفراء تطبع مثلاً مئات النسخ من العدد الواحد، فلا توزع منها سوى بضعة أعداد للممول على سبيل الاشتراكات أو الإعلانات وأعداد لصاحب الجريدة وأصدقائه من المشتركين مجاناً، وبعض الأعداد يتناشلها السكرتيرات والمحررون والمحاسبون والسائقون و«ناطور» العمارة، وبضعة أعداد لوزارة الإعلام لحفظ الامتياز في حقوقه الكاملة الصافية، وما تبقى منها للأرشيف.

كيف كانت تعيش جريدة من هذا النوع وما هو حبل سرّتها؟

صحفنا في معظمها مستأجرة من جهة ما غالباً ما تكون أجنبية، الأمر الذي كان يجيز إقفالها بموجب القانون الذي يشترط في صاحب الجريدة أن يكون غير محكوم عليه بجنحة وألا يكون في خدمة دولة أجنبية. لم يكن للكثير من وسائل الإعلام الخاصة، في معظمها، من معرفة بلبنان سوى «ساحة الصدور» التي توفر فسحات الحرية غير المسؤولة، وحيث أن الوضع الرسمي الإعلامي لم يكن سليماً من النواحي المادية والمهنية والوطنية.

وبعد نصف قرن كان وزير الإعلام يتساءل: «كيف ننظم الإعلام لتجنب ارتهان الشركات الإعلامية إلى التمويل الخارجي؟».

لا يمكن فهم المسؤوليات الخطيرة التي تلقى على عاتق الإعلام، ومعنى مطالبة الدولة اللبنانية بمراقبة مصادر وسائل الإعلام المالية، بعد مرور عقود على هذه الوقائع والآراء التي نسوقها على الرغم من ظرافتها ومرارتها، إلا لأنها مثلت واقع الإعلام اللبناني في ذلك التاريخ. ومهما خففنا من غلوائها، ومن مدى تعميمها وشموليتها، فإنها تُستعاد، اليوم، وتصيب لبنان في الصميم حيث الطائفية والمعالجات السطحية والمذهبية شديدة الوضوح والخطورة، ونحن مقيمون في حيز وسطي من البقع الملتهبة من حولنا.