ليس أمرًا مألوفًا الحديث عن "سلطة" و"معارضة"، أو حتى عن "أجنحة"، داخل تنظيمٍ حزبيٍ واحد، يفترض في المبدأ أن لا تفسد معاركه الانتخابية في "الوحدة" وليس فقط في "الودّ" قضية. ولكنّ الانتخابات الداخلية في "التيار الوطني الحر" كرّست على ما يبدو هذا الأمر، بدءاً من "التوافق" على "تعيين" الوزير ​جبران باسيل​ رئيسًا له، إلى كلّ ما تلاه من محطاتٍ انتخابية وُصِفت بـ"المفصلية" و"الأساسية".

آخر عنقود المرحلة "التأسيسية" لـ"التيار" تمثل بانتخابات "المجلس السياسي" فيه، مع كلّ ما رافقها من "طنّة ورنّة"، تارة بسبب ما حُكي عن تجاوزاتٍ وتدخّلاتٍ شوّهت مسارها، وتارةً أخرى بسبب ما قيل عن "فرادة" نظامٍ انتخابي عُدّل في ربع الساعة الأخير، مانحًا "الرئيس" صلاحياتٍ شبه مطلقة!

تجاوزاتٌ بالجملة...

على غرار ما سبقها من محطاتٍ انتخابية، لم تمرّ انتخابات المجلس السياسي في "التيار الوطني الحر" من دون ضجّة، رغم كلّ ما قيل ويُقال عن أنّها لا تقدّم ولا تؤخّر في المعادلة، خصوصًا أنّ الانتخاب يشمل فقط ستة أعضاء، على أن يعيّن رئيس "التيار" ثلاثة آخرين، علمًا أنّ نواب ووزراء "التيار" هم حُكمًا من أعضاء المجلس.

وإذا كانت هذه الانتخابات قد بدأت "فرديّة" و"صحّية"، فإنّ "الاصطفافات" فعلت سريعًا فعلها فيها، فـ"سيّست" المعركة بامتياز، كما يقول مصدر قيادي في "التيار"، بحيث كانت الساعات الأربع والعشرون التي سبقت موعدها "حافلة" بالتجاوزات والتدخلات والضغوطات التي حصلت والتي انتشرت عبر الإعلام، ولعلّ أبرزها الاتصالات التي تلقّاها عددٌ من "الناخبين" من رؤساء وأعضاء مجالس الأقضية المنتخبين من قبل مرجعٍ في "التيار" محسوب على رئيسه جبران باسيل، للضغط عليهم لانتخاب مرشحين محدّدين، على قاعدة "التمنّي وإلا"، مغلّفة بعبارة "هكذا يريد المعلّم"، في إشارة إلى رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون، مع ما لهذه العبارة من رمزيةٍ ومعانٍ.

وعلى الرغم من أنّ المصدر القياديّ يرفض مقولة أنّ عون أو حتى باسيل يقف مباشرةً وراء هذه التدخلات، حاصرًا إياها بـ"الفريق المقرّب من باسيل"، الذي يمكن أن يكون "فاتحًا على حسابه"، على حدّ تعبيره، مشيرًا إلى أنّ رئيس "التيار" هو في النهاية ناخبٌ شأنه شأن غيره من "الناخبين"، وبالتالي فهو "حرّ بتأييد من يشاء"، فإنّ مصادر أخرى تتحدّث عن مسؤوليةٍ يتحمّلها باسيل في إيصال الأمور إلى ما وصلت إليه، حتى لو كان "بريئاً" من هذه "التدخّلات"، فهو الذي عدّل النظام الداخلي في اللحظة الأخيرة جاعلاً صوت هيئات الأقضية وفق تصويت النظام النسبي لا الأكثري، مُحدِثاً "شرذمة" توازي في حجمها تلك التي أحدثها عشية الانتخابات المناطقية حين "حصر" حق الاقتراع بـ"سجلّ النفوس لا مكان السكن"، علمًا أنّ النظام الداخلي لـ"التيار" يخيّر أعضاءه عند انخراطهم في صفوفه بين الانتساب إلى هيئةٍ محليةٍ مناطقيةٍ وفق قيدهم أو سكنهم "حسب اختيارهم"، كما ورد حرفيًا في النظام.

المعارضة أخطأت!

كثيرة هي "القراءات" التي أعطيت من الناحية "المبدئية" لنتائج انتخابات المجلس السياسي في "التيار"، فهناك من رأى فيها "تكريساً" لمسارٍ سياسي بدأ منذ ما سُمّي بـ"التجديد" الذي أوصل الوزير باسيل لسدّة الرئاسة داخل "التيار"، وهناك من قرأ فيها "ديكتاتورية مقنّعة" تمثّلت بتطابق النتائج النهائية مع تلك التي سُرّبت سابقاً، ما أوحى وكأنّها انتخاباتٌ "معلّبة"، وهناك من رأى فيها "إعدامًا سياسيًا" لـ"الجناح المعارض"، تمثّل خصوصًا بسقوط المرشحين ​أنطوان نصرالله​ و​زياد عبس​، رغم "الانتصار" الذي حققه الأخير على سبيل المثال في الانتخابات المناطقية، والتي كرّسته لاعباً أساسيًا على الأرض.

عمومًا، فإنّ المعارضة تتحمّل جزءاً أساسياً من المسؤولية بحسب المصدر القيادي في "التيار"، الذي يقول أنّها تصرّفت بأنانية ولم تتعامل مع الموقف بذكاء، بعكس المرشحين الموالين لباسيل، الذين سُجّلت حركة انسحاباتٍ لافتة في صفوفهم في الساعات الأخيرة من أجل ضمان "عدم تشرذم" أصوات مناصريهم، في حين لم "يتّحِد" المعارضون في المقابل، وسيطرت "الحسابات الشخصية" على بعضهم، فضلاً عن كونهم ركّزوا على ثلاثة مرشحين فقط من أصل خمسة، هم زياد عبس وأنطوان نصرالله و​جورج شقير​. أما المرشح ​نعمان مراد​، الذي قيل أنّ فوزه شكّل "خرقاً مدوياً"، فيشير المصدر إلى أنّه لا يُعَدّ من المعارضة بالمعنى الكامل للكلمة، وإن كان قريبًا منها.

ولكن، في مقابل هذه القراءة تبرز قراءةٌ أخرى، من الصف "المعارض"، تقول أنّ هذا الجناح لم يستخدم كلّ "ثقله" في هذه المعركة، لأنّه لم يُرِدها "معركة كسر عظم" ضدّ رئيس "التيار"، كون المجلس السياسي لا يقدّم ولا يؤخّر شيئاً في النهاية، متقاطعين بذلك مع قول باسيل نفسه أنّ المعركة لم تكن معركة موالاة ومعارضة، وذلك بدليل أنّ العديد من المرشحين المحسوبين على باسيل حصدوا ما لا بأس به من الأصوات في مناطق تُعَدّ خزّان المعارضة، ومنها كسروان على سبيل المثال، وهم يكتفون بـ"الرسائل" التي وصلت إلى باسيل، مع قناعتهم بأنّ الانتخابات المناطقية كانت الأكثر تعبيراً عن واقع الحال على الأرض.

خيارات باسيل...

قطفها جبران باسيل إذاً. بات ممسكًا بـ"التيار" بشكلٍ مطلق، والصلاحيات شبه مطلقة بيده. ولكنّ الستارة لم تُسدَل بعد بشكلٍ نهائي، والكثير يبقى مرهوناً بما سيُقدِم عليه رئيس "التيار" الآن، في إشارةٍ إلى الأعضاء الذين يمتلك صلاحية تعيينهم لإكمال هيكلية المجلس السياسي، وفق المادة "المثيرة للجدل" التي ينصّ عليها النظام الداخلي.

هنا، تُطرح، بحسب المصدر نفسه، علامات استفهامٍ بالجملة حول الخيار الذي سيلجأ إليه باسيل، والذي سيُبنى عليه الكثير بدون شكّ لتحديد المنحى الذي ستذهب إليه الأمور، فهل يلجأ لتعيين أعضاء محسوبين عليه بشكلٍ كامل، ليزيد من "سيطرته" على المجلس، أم ينجح في إحداث توازنٍ عبر إدخال أشخاصٍ قريبين من المعارضة، أو ربما قريبين من الخطين؟

وإذا كان المصدر يركّز على الفكرة الأخيرة، باعتبار أنّ هؤلاء الأشخاص، الذين قد ينطبق عليهم وصف "الوسطيين"، كونهم يمكن أن يشكّلوا "نقطة وصل" داخل المجلس بين الجميع، علمًا أنّهم ليسوا أقلية، وبينهم من انسحب من الانتخابات بسبب الاصطفافات التي حصلت، فإنّ سؤالاً جوهريًا آخر يطرحه، وهو، هل يعيّن مثلأً المرجع الذي ضغط على الناخبين، والذي أصبح اسمه معروفاً للجميع داخل وخارج "التيار"؟ وما الذي يمكن أن يُفهَم من مثل هذه الخطوة؟

لا تداعيات...

لا شكّ أنّ خطوة باسيل ستحدّد المسار العام للأمور، فإمّا تذهب الأمور صوب "التصعيد"، وإمّا تكون "المساكنة" لصالح "التيار" ومصلحته العُليا.

وإذا كانت "رياح التصعيد" قد بدأت تظهر من خلال كلام باسيل نفسه تمهيدًا للمؤتمر العام، مع ما قاله من أنّه لا يقبل بوجود "معارضة"، فإنّ المصدر القيادي في "التيار" يستبعد أيّ تداعيات، باعتبار أنّ لا صلاحيات لأيّ حزبي ليعارض الرئيس، ويجدر به الالتزام بقراراته، سواء وافقه أم لم توافقه.

جلّ ما يستطيع "المعارض" فعله هو الاستقالة إذاً، لا أكثر ولا أقلّ، فهل تصل "المعارضة" داخل "التيار" إلى مثل هذه المرحلة، بعد كلّ "التضييق" الذي يُمارَس بحقّها، أم أنّ القيادة ستنجح في إعادة "تصويب" الأمور، ولو لم تكن المهمّة سهلة؟!