أكثر من محلل سياسي قارن بين خيبة أمل أميركا بالدور السعودي الهزيل في المنطقة بمواجهة إيران، وخيبة أمل السعودية بالدور الذي فشل الرئيس سعد الحريري في القيام به في لبنان، وتحديداً في احتضان الشارع السُّني وتعزيزه لدعم "المعارضة السورية" ومواجهة حزب الله، وذهب بعض المحللين إلى الاجتهاد بأن تجميد "الهبة" السعودية للبنان جاء على خلفية "تقييم الجدوى" من الاستثمار الخاسر بالرئيس الحريري، وأن هذه الهبة تمّ تحويلها إلى السودان تقديراً لدور المقاتلين السودانيين في حرب التحالف على اليمن.

في الواقع، "تقييم جدوى الاستثمار" بالرئيس الحريري استدعى من السعودية أكثر من مرة، وعلى مدى السنتين الماضيتين، تقييم جدوى بقائه خارج لبنان، سواء في فرنسا أو السعودية، سيما أن غيابه شكّل فرصة للبعض للتمرّد عليه في عكار، كما حصل مع النائبين خالد الضاهر ومعين المرعبي، أو من كبر في غيابه وانتفض من تحت جناحه كالوزير أشرف ريفي، ورغم عدم بروز شخصية سُنية تحل مكان زعامة آل الحريري، فإن تشتت الزعامة على أكثر من شخصية مناطقية، يجعل الحريري تائهاً في البحث عن موقع ينطلق منه لاسترداد المكانة والمستقبل السياسي، خصوصاً أن نواب ووزراء "تيار المستقبل" ليس بإمكانهم أن يكونوا نواطير الإرث، لأن الشعب اللبناني، والسُّني تحديداً، ليس جزءاً من هذا الإرث.

أمام مشاكله المادية الخاصة، وصرخات 56 ألف موظف من شركة "سعودي أوجيه" المترنحة والعاجزة عن دفع الرواتب منذ أشهر، وعدم إمكانية التعويم نتيجة الركود الاقتصادي وسياسة التقنين التي تنتهجها المملكة لمواجهة النكسات الاقتصادية جراء انهيار أسعار النفط والتورط في الحروب، فإن الرئيس الحريري يعاني من شبه إفلاس مادي سيعيقه عن استرداد التفليسة الشعبية والسياسية التي يعاني منها، خصوصاً أن نبع المليارات السعودية في الانتخابات قد نضب، وإن لم ينضب بعد فإن الاستثمار بكتلة نواب أو رؤساء بلديات لم يعد مُجدياً، لأن لعبة "قصقص ورق.. ساويهم ناس" عبر الأموال، لم تعد صالحة في الشارع السُّني المنقسم سياسياً ومناطقياً بامتياز.

في الشمال، حيث عكار باتت عهدة بالمناصفة بأيدي الضاهر والمرعبي، ولم يعد فيها الحريري سوى شريك بالتراضي في حال دفع المتوجب عليه كمستحقات من العام 2005، فإن استقالة الوزير أشرف ريفي "طوّبت" طرابلس له، وبات زعيماً ليس لطرابلس فحسب بل نودي به من طرابلس "الزعيم الأوحد للسُّنة في لبنان"، وسواء تمسّك ريفي باستقالته أو عاد عنها بطلب سعودي، فإن على الرئيس الحريري أن يبدأ من الصفر في المدينة، ويسعى إلى محاورة قياداتها، سواء الرئيس ميقاتي أو النائب الصفدي أو آل كرامي، إضافة إلى استسماح ريفي، لما له من سلطة قد تكون "ميليشوية" على الشارع الطرابلسي.

وضع البقاع ليس أفضل، حيث شكّلت زيارة النائب السابق عبد الرحيم لـ"بيت الوسط" مفاجأة، وبصرف النظر عن التصريحات التي تلت الزيارة والتأكيد على عروبة لبنان، فإن عروبة مراد هي في إرث عبد الناصر، وفي جوهر عدالة القضية الفلسطينية، وعروبة الحريري هي حصراً في ما تراه المملكة السعودية أنه عروبي، وبالتالي اقتصرت زيارة مراد على التوافق في الانتخابات البلدية المقبلة، وترك الخيارات للناخبين، مع ما لمراد من قوة تجييرية في البقاع أقوى من تلك التي كان يمتلكها في انتخابات 2010 وهزم فيها الحريري بلدياً.

وفي صيدا، حيث عروبة أسامة سعد تجلّت كما العادة منذ أيام وسط الحشود في ذكرى اغتيال والده الشهيد معروف سعد، تتنافى كلياً مع "عروبة" الحريري، وتعكس الانقسام السُّني المبدئي بين سُنة القومية العربية المناصرة للقضية الفلسطينية والمقاومة اللبنانية في مواجهة العدوان "الإسرائيلي"، وسُنية الحريري ذات النكهة السعودية، والتي تحيا فقط على استعداء حزب الله وشحن السُّنة مذهبياً ضده، وهذا ما نجح فيه كثيرون من رجال الدين والسياسة بدون "مساعدة" الحريري، وبالتالي فإن بوابة الجنوب صيدا - ذات النائبين - بات أحد مفاتيحها ومنذ سنوات في جيب أسامة سعد.

وبالعودة إلى بيروت، فإن إطلاق الرئيس سعد الحريري من "بيت الوسط" وثيقة "التضامن مع الإجماع العربي، والوفاء للدول العربية الشقيقة"، والحضور "البورجوازي" من الوزراء والنواب والشخصيات الاقتصادية والاجتماعية والإعلامية، وأصحاب المصالح مع السعودية ودول الخليج، لم يكن حافزاً كي تنتقل هذه الوثيقة الى الشعب بحماسة، ومهلة الأيام العشرة التي أُعطيت لمنسقيات المناطق في "تيار المستقبل" لحشو هذه الوثيقة بالتواقيع الشعبية ليست إلا عراضة استرضاء للمملكة؛ لن تقدم أو تؤخر في قرارات وسياسات غير شعبية.

ولعل زيارة الحريري لمنطقة الطريق الجديدة شكّلت أعظم الخيبات لجهة "الحشود"، أو في ما قاله الحريري، سواء من كلام عروبي لم يعد يحاكي الناس المنهَكين، أو من خلال التأكيد أن "هدفنا الدولة ورفيق الحريري"، وهنا لا بد له من إعادة تشغيل فيديو الزيارة، ليدرك أنه بعد طول غياب، كان أبناء الطريق الجديدة ينتظرون منه "المعجزات"، لكنه أتى بكلمات خشبية لا تبني دولة ولا تستعيد جماهير!

بداية من الصفر لزعيم "المستقبل"، بعد أن حطّم كل الأرقام القياسية في كل شيء، وبعد أن أحرق كل الأوراق، وإذا كانت الانتخابات البلدية المقبلة ستكشف الأحجام وتعطي ترجيحات الانتخابات النيابية إن حصلت يوماً، فإن الحريري وحتى العام 2017 سيبقى رئيس أكبر كتلة برلمانية، وهي الفرصة الأخيرة له لاسترداد الدور على الساحة السياسية بصفته سعد الحريري، دون الاعتماد على مكرمات المملكة، ولا على إرث سياسي - مالي قامر به حتى الإفلاس.