لم يهنأ لبنان بحياة مستقرة، لا قبل الاستقلال ولا بعده، فمنذ عهود غابرة، زمن الحكم العثماني، والامارة اللبنانية، والقائمقامتين، وثورة 1860، وحتى زمن المتصرفية، وبعده الانتداب، لم ينعم شعب لبنان، في الحقيقــة، بطمأنينة سياسية واجتماعية واقتصادية وامنية على نحو مريح ومستتب. ولا نزال نعاني حتى الغرق من استمرار العوامل السلبية القديمة التي تنامت وزادت حدة مع الوقت بدل ان تتضاءل تدريجيًا مع تطور الفكر والعلم والثقافة وانفتاح العالم على ارجائه عبر التقنيات الحديثة.

لست الآن بصدد استخراج الاحداث من التاريخ واستعراض عبره الا بقدر ما ينفع الحدث الاكثر سلبية وخطورة في الوقت الحاضر الا وهو "الفراغ" في سدة الرئاسة الاولى الذي حقق رقمًا قياسيًا لم يسبقه اليه اي نظام ديوقراطي في العالم. وحسبي ان اقول، بهذا الشأن، ان الشعب اللبناني قد تعهده اناس مفرطون في ممارسة العمل السياسي الى ابعد حدود، فاذا بنا نراهم متمسكين حينا بمبادىء الميثاق الوطني ودستور الأمّة واحيانا يحيدون عنها تبعا لما يناسب مصالحهم الذاتية، دون مصالح الوطن العليا.

وهذا ليس بجديد، بل الجديد هو ان الازمات الحادة تزداد تفاقماً وضراوة، وقد تؤدي بنا جميعاً، لا سمح الله، الى الهلاك التام اقله زوال استقلالنا وسيادتنا عدا المرض والذل والتشرد والفقر والجوع لشعبنا، وان هذا الواقع المرير يقودني الى القول: ان الحكم في لبنان ليس حكما فرديا تسلطيا ومناطقيا كما يحلو للبعض، بل هو نظـــام ديمقراطي برلماني حرّ يراعي العائلات الروحية المتمثلة بتعددية الطوائف. هذه هي التركيبة اللبنانية الفذة التي اذا شئناها دام لنا الوطن والا زال منه وجودنا، وان رئيس الجمهورية، كما سائر الرئاسات، ليست ملكاً اقطاعياً لاي طائفة، وان رئيس البلاد للجميع، وهو حارس الدستور ومنه يستمد قوته، وينتخب على اسس مرسومة فيه.

وهذا الدستور يعتبر صورة مطابقة للميثاق الوطني بجميع مواده، دون ان اعني بكلامي عدم قابليته للتطوير تفعيلا لادائه في ترسيخ ميثاق العيش المشترك، مع العلم ان الرابطة المارونية، التي تختزن كفاءات عالية من خيرة رجالات لبنان، قد ارست هذه المفاهيم ودعمتها قولاً وفعلاً، واكدتها في مجالات عديدة، وعلى لسان رئيسها النقيب سمير ابي اللمع، واعلنتها على الملأ، ونادت بها، ووضعت في اولى اولوياتها مسألة الفراغ الرئاسي المميت. ونذكّر بان المارونية ليست وليدة صدفة عابرة، بل هي "سفر مجيد ومتألق من اسفار التاريخ" وليس لاحد ان يختصرها به، او يحد من توجهاتها وتقاليدها الداعمة لمقام رئاسة الجمهورية ايا كان الرئيس الماروني الذي اختاره الدستور وفقا للمادة 49 منه.

هذه المادة (49) لم تنص على نصاب الثلثين لانعقاد المجلس النيابي، كونها مادة انتخاب وليست مادة نصاب، وان النصاب القانوني هو الاكثرية المطلقة، عملا بالمادة 34 دستور،التي تبدأ معها عملية انتخاب رئيس الجمهورية. وليفهم من يحتاج الى فهم ان نصاب الثلثين لا يعتبر عملا ميثاقيا بل يتعارض معه، اذ لا يجوز ان يعطّل ثلث النواب انتخاب الرئيس الماروني الى ما لا نهاية، وبدليل الواقع الملموس الذي نعيشه منذ حوالي السنتين بدون رئيس للبلاد، كما ان نصاب الثلثين الذي استطابه سياسيو اليوم، او بعضهم، يعتبر مجافيًا للدستور وضارا بالطائفة المارونية دون ادنى شك، وبمصالح الشعب اللبناني عامة الذي ضاق ذرعًا من سياسييه وكفر بوجوده في وطنه بسبب تكايدهم، وتنافرهم، وتهورهم الاعمى.