يغادر الرئيس الأميركي ​باراك أوباما​ ​البيت الأبيض​ خلال الأشهر المقبلة. اختلف النقّاد والمحللون والمثقفون، وحتى المسؤولون من رؤساء وملوك وأمراء وسفراء دول، في توصيف عقيدة أوباما.

وعلى الرغم من أنّ قلة من الرؤساء في تاريخ الولايات المتحدة واجهوا اختبارات على مستوى السياسة الخارجية كتلك التي واجهها أوباما، إلا أنّه استطاع أن يرسم خطاً بيانياً للسياسة الأميركية ليس للفترة المتبقية له في البيت الابيض، بل لأيّ رئيس سيخلفه، وذلك من خلال الكشف عن نمط تفكير الرئيس المسؤول والموضوعي وقدرته على تغيير وجه وصورة بلاده التي باتت مشوّهة عند معظم شعوب المنطقة.

فعندما سئل الرئيس الأميركي الحالي عن سياسته التي اتبعها وعن فهم المؤرخين لها وعن أدائه، أجاب: "أعتقد أنه يمكن اعتباري واقعياً لإدراكي أنه لا يمكننا في أي لحظة تخفيف كل البؤس الموجود في العالم"، وأردف قائلاً: "يجب أن نختار أين يمكننا إحداث تأثير فعلي".

أفرج أوباما عن مكنونات صدره في حديث شيّق يتطلب منا التمعن بكل جملة أو تعبير جاء في سياقه، ولا يجوز إغفال ما صرّح به للصحافي في مجلة "أتلانتيك" ​جيفري غولدبرغ​، عندما أعلن فخره بالقرار الشهير بتراجعه عن الدخول بعمل عسكري في سوريا بعدما ضغطت مجموعة من المستشارين مثل "​سامانتا باور​" صاحبة كتاب "أميركا وعصر الابادة" الذي صدر عام 2002 والذي اثبت فشل نظريتها بعد التدخل في كل من افغانستان والعراق وليبيا، وكذلك وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك ​هيلاري كلينتون​ التي انتقدت علناً مبدأ أوباما القائل بـ "عدم القيام بأفعال غبيّة"، حين قالت عبارتها المشهورة "عدم القيام بأفعال غبيّة ليس مبدأ في السياسة"، ووزير الخارجية الحالي جون كيري الذي كان من المتحمسين لتنفيذ الضربة الأميركية على سوريا.

أوباما وصف قرار التراجع عن ضرب سوريا بالصائب، مطلقاً على يوم اتخاذه بأنّه "يوم التحرير" بعينه من سطوة الاستشاريين أصحاب المنفعة الشخصية ومراكز الدراسات التي تعتمد تقاريرها أجهزة المخابرات الأميركية، رافعة بدورها التقارير "الكاذبة" والهادفه لتنفيذ مصالح بعض الدول مقابل مبالغ مالية ضخمة.

أوباما شنّ هجومًا غير مسبوق على حلفائه فرنسا وبريطانيا وعلى تدخل الاطلسي في ليبيا، واصفاً ايّاه بالخاطئ والكارثي لما خلّفه من تداعيات أدّت الى سيطرة مجموعات ارهابية على ليبيا. أما بالنسبة للرئيس التركي ​رجب طيب أردوغان​، فأعلن أوباما صراحة أنّ الأخير "استبدادي"، واصفاً إياه بـ"الفاشل اللاهث خلف تحقيق حلمه العثماني"، ولم يوفّر رئيس الحكومة الإسرائيلية ​بنيامين نتانياهو​ صاحب النزعة العدائية من انتقاداته، حيث وصفه بأنّه "رجل ضعيف فوّت فرصة إحلال السلام في المنطقة من خلال دولتين فلسطينية وإسرائيلية".

ولعلّ النقطة الأهم في ما قاله أوباما تكمن في ما يتعلق بنمط تفكير بعض الحُكّام العرب، لا سيما في الخليج العربي، وهنا نأتي إلى بيت القصيد.

قال أوباما أنّ ما أعلنه خلال زيارته إلى القاهرة وأنقرة كان واضحاً لجهة تضامنه مع عالم إسلامي معتدل، "لكنّ الحُكّام العرب لم يفهموا ما عنيته من أننا كولايات متحدة لا نستطيع اجتراح الحلول، لأنّ المشكلة الأساس موجودة عندهم في نمط التفكير والاداء لتحقيق الحريات وارساء الديمقراطية"، وخلص إلى أنّ العلّة هي بأنظمتهم كعرب، وقال: "لا يمكننا أن نحلّ مشاكلهم بدلا عنهم ويجب عليهم أن يعتمدوا على أنفسهم وليس على أميركا".

بعدها، أدار أوباما الدفة الى أنظمة الخليج، متهماً اياها بأنّها تريد جرّ واشنطن إلى حرب طائفية مقيتة في المنطقة، خصوصاً بعد ما تم الكشف عن مراسلاتٍ عدّة وتحريض غير مسبوق من قبل المسؤولين السعوديين وعلى وجه الخصوص سفير السعودية في واشنطن آنذاك ​عادل الجبير​، الذي أرسل رسالة عاجلة الى الرياض يقول فيها "الرجل اصبح جاهزا لالقاء قنابله على سوريا"، ليُفاجَأ فيما بعد بقرار اوباما بإلغاء ضرب سوريا. عندها، أرسل الجبير رسالته الشهيرة الى الرياض ليقول: "لقد باتت إيران القوة العظمى في المنطقة"، فيما اتهم ولي عهد دولة الامارات العربية الشيخ ​محمد بن زايد​ الولايات المتحده قائلا "ان من يحكم أميركا رجل غير موثوق"، وحتى ملك الاردن عبدالله بن الحسين وعقب تبلغه نبأ التراجع عن ضرب سوريا قال: "يخيّل إليّ أنني أفهم أميركا أكثر من أوباما نفسه".

ورغم الضغط الهائل، إلا أنّ الرئيس الأميركي فضّل استشارة كبير موظفي البيت الأبيض الرصين "ماكدونو" الذي تباحث معه في الحديقة الخلفية للبيت الابيض خوفاً من التنصّت، شارحاً له أنّه تعب من صورة الولايات المتحدة الخارجية التي تشنّ حروباً عبثية على بلاد المسلمين.

يذكر ان"ماكدونو" هو الوحيد الذي لم يوافق على تدخل عسكري أميركي في سوريا، والسبب هو كشفه عن تقارير كاذبة من قبل المخابرات الأميركية بهدف دفع أميركا الى التدخل المباشر في سوريا، عندها اتخذ اوباما قراره بالغاء كل التحضيرات للضربة، مقتنعا بانه القرار الصائب، واصفا ذاك اليوم بانه يوم التحرير الفعلي، موجها نصيحته للانظمة الخليجية بوجوب التعايش مع ايران بشكل سلمي حتى لو كان سلاماً بارداً، لان لا امكانية للولوج بحلول مجدية في المنطقة في ظل الاشتباك السياسي المعقد خصوصاً بين السعودية وايران.

جون كيري وزير خارجية الولايات المتحدة طلب موعدا عاجلا لمقابلة الملك السعودي ​سلمان بن عبد العزيز​ لابلاغه أن لا وجود لما يطلق عليه بالخطة البديلة في سوريا، وان الموقف الأميركي للرئيس هو قرار استراتيجي مفاعيله لا تسري على ادارة اوباما فقط انما على أيّ إدارة جديدة ستحل مكانه في البيت الابيض ديمقراطية كانت ام جمهورية، مشيرا الى ضرورة انهاء النزاعات في كل من سوريا واليمن والبدء باجراء عملية التحول البطيء في الموقف الخليجي عموما والسعودي خصوصاً.

يتبيّن لنا من خلال هذا الموقف للرئيس الأميركي ان الاستراتيجية الأميركية الجديدة هي تبدد الرهانات والضغط على الحلفاء للبدء بالتحولات التي تفضي الى تغيير في نمط التفكير والاستراتيجية المتبعة من قبل الحلفاء تمهيدا للوصول الى اخماد النيران المشتعلة في المنطقة والتعايش مع الواقع الجديد بعدم اعتمادنا الكلي على نفط المنطقة وما نتج عن الاتفاق النووي الايراني، والاعتراف بشراكة مع الروس لايجاد حلول تحفظ المصالح المشتركة واعادة العلاقات مع كوبا وتوجه اهتمامنا نحو الشرق الاقصى.

نسلط الضوء على هذا الجانب ليس للدفاع عن اوباما او عقيدته او نمط تفكيره، بقدر ما نود تسليط الضوء على طريقة تفكير بعض الحكام العرب، الذين ما برحوا يشترون ذمم بعض المسؤولين في الادارات الغربية من خلال ابرام الصفقات التجارية الضخمة، عسكرية كانت غير عسكرية، بهدف اجبار تلك الدول وعلى راسهم أميركا للانصياع الى تنفيذ رغبات واجندات لا تخدم امتنا العربية، بل لتستعمل ضد دول عربية ذات سيادة تساند مبدأ مقاومة العدو الاسرائيلي وتدعم حقنا نحن كعرب وحق الشعب الفلسطيني.

ولعلّ الرد اللاذع الذي اصدره الامير السعودي تركي الفيصل بمقالته في جريدة "الشرق الاوسط" في عددها بتاريخ 14 آذار 2016 تحت عنوان "لا يا سيد اوباما" لهو أكبر دليل على أنّ أوباما أصاب بيت الداء ووضع اصبعه على جرح عربي نازف بعد ان وصف عقيدته وقراره بيوم التحرير الشهير...