بموازاة حياتنا الإجتماعيّة الفعليّة والمعروفة والتي تتمثّل بالإختلاط بالآخرين خلال العمل اليومي وفي المناسبات المختلفة التي تقتضي بطبيعة الحال تقديم التهاني في الأفراح وواجب المُواساة والتعزية في الأحزان، بُتنا نعيش حاليًا، وفي ظلّ التطوّر التكنولوجي الهائل، حياة إجتماعيّة رديفة رقميّة الطابع، بحيث نتواصل فيها مع الآخرين عبر شاشات العرض على اختلاف أنواعها! فكيف هي هذه الحياة، وما هي حسناتها وسيّئاتها، وأيّ تأثير تتركه علينا؟

لا أحد يُمكنه أن ينكر حسنات التواصل الرقمي الذي أصبح مُتاحًا للجميع من خلف شاشات هواتفهم أو لوحاتهم الإلكترونيّة أو "كومبيوتراتهم"، بحيث وجد الكثيرون في هذه التجهيزات وسيلة لكسر وحدتهم المُملّة، ولتمضية أوقات مُسلّية وهم في منازلهم، وربما في غرف نومهم. وصار من المُمكن متابعة أخبار أنسباء وأصدقاء وأشخاص كُثر أبعدتهم الظروف عن محيطنا الجغرافي، أو فرّقتهم الأيّام عنّا، بحيث فُقدت ظُروف التواصل السابق الذي كان قائمًا. ولا أحد يُمكنه أن ينكر أنّ الكثيرين وجدوا في مواقع التواصل الإجتماعي الرقمي المنفذ المناسب لعيش قصص حب وغرام، إنتهى الكثير منها بخاتمات سعيدة تكلّلت بالزواج. لكن في مُقابل الحسنات المُتعدّدة لهذا النوع من التواصل الإلكتروني، توجد مجموعة كبيرة من السيّئات التي بدأت تترك آثارًا سلبيّة عدّة. وفي هذا السياق، يُمكن التوقّف عند العديد من الأمثلة:

أوًلاً: في الحياة الإجتماعيّة الرقميّة، يُمكن أن نجد أشخاصًا غير إجتماعيّين وحتى بطابع إنطوائي، لكنّهم كثيرو النشاط في هذه الحياة الإجتماعيّة الإفتراضيّة – إذا جاز التعبير. وهؤلاء الأشخاص أنفسهم يُمكن أن يُمطروا "معارفهم" أو "أصدقاءهم" المُفترضين على شبكات التواصل الإجتماعي، بالتعليقات عند القيام بأدنى نشاط رقمي، وفي الوقت عينه، لا يتكلّف هؤلاء عناء التواصل الفعلي مع "معارفهم" و"أصدقائهم" تحت أيّ ظرف، وبعضهم يُمكن أن يمرّ قرب هؤلاء من دون سلام وكلام في الحياة الفعليّة!

ثانيًا: في الحياة الإجتماعيّة الرقميّة، يُمكن أن نجد أشخاصًا يُعبّرون عن مكنوناتهم السياسيّة والفكريّة والدينيّة وغيرها، بعيدًا عن التحفّظ الذي يُمارسونه عادة خلال التواصل الإجتماعي الفعلي، وكثيرون منهم يندفعون في مناكفات صاخبة دفاعًا عن آرائهم ومُعتقداتهم وميولهم، وينجرفون في حفلات من السبُاب والشتائم من دون أيّ رادع، بحيث تُصبح شبكات التواصل الرقمي واحة لإنتقام هؤلاء من الآخرين الذين لا يُمكن النيل منهم فعليًا.

ثالثًا: في الحياة الإجتماعيّة الرقميّة، يُمكن أن نقع على أشخاص يعيشون حياة كاذبة، بحيث يُوحون للآخرين بأنّهم غير ما هم عليه في الواقع، فيكذّبون بشأن أعمارهم، ويُعدّلون في صُورهم، ويُعطون إنطباعات مختلفة وحتى معلومات كاذبة عن الحياة الفعليّة التي يعيشونها. وهذا الغش الرقمي يُمكن أن يكون بسيطًا وناجمًا من عقد نفسيّة محدودة، ويُمكن أيضًا أن يصل إلى حد وُجود أشخاص مريضين نفسيّين، وحتى قتلة مُتسلسلين في المُجتمعات الغربيّة مثلاً.

رابعًا: في الحياة الإجتماعيّة الرقميّة، يُمكن أن نتورّط في قُصص خيانة عاطفيّة بسهولة، خاصة بعد أن صار التواصل أسهل من أيّ وقت مضى، حيث من المُمكن لأي شخص أن يفتح حسابًا جديدًا غير معروف للآخرين، حتى لأقرب الناس إليه، ويتواصل عبره مع أشخاص يرغبون بعيش حياة مزدوجة، بعيدًا عن القُيود الإجتماعيّة والضوابط الدينيّة والأخلاقيّة، إلخ.

خامسًا: في الحياة الإجتماعيّة الرقميّة، يُمكن أن نجد أشخاصًا مرضى غرورهم الشخصي، بحيث يُمضون وقتهم في محاولة إبهار الآخرين بصورهم وبأنشطتهم المختلفة، أو أشخاصًا أسرى غيرتهم، بحيث يُمضون وقتهم في تتبع أخبار الآخرين وحسدهم على أدنى نشاط يقومون به! وفي الحالين، يسقط هذا النوع من المُستخدمين في مُعضلات كانوا في غنى عنها، لولا إنخراطهم إلى حد الثمالة في هذا الوهم الإلكتروني المُثير للإنفعالات في غير مكانها.

في الختام، يُمكن القول إنّ الحياة الإجتماعيّة الرقميّة هي سيف ذو حدّين، فهي يُمكن أن تُشكّل مخرجًا من وحدة قاتلة، وأسلوب تواصل ناجح مع البعيدين جغرافيًا، وواحة للتسلية والترفيه وربّما للحب، إلخ. لكنّ سوء إستخدام هذه الحياة الإفتراضيّة يُمكن أن يقودنا أيضًا إلى الوقوع في مطبّات وأخطاء لم تكن مُتاحة بهذا الشكل السهل في السابق. كما أنّ تحوّل بعض مُستخدمي وسائل التواصل الإلكتروني إلى مُدمنين على شبكات التواصل الإجتماعي، يُمكن أن يُحوّلهم إلى أشخاص يعيشون وهم التواصل الإجتماعي فيما هم في الواقع أسرى منازلهم وغرفهم الضيّقة!