دأب ما يُسمى العملية السياسية في العراق منذ قيامها على يد الاحتلال الأميركي، باتخاذِ طريقٍ أعوج ومنحرف عن جادة الصواب والمسؤولية، بل جاء الطريق مُشبَعاً بالارتجالية والسذاجة السياسية الغبية التي ليس لها رصيد من المبادئ والقيم والمفاهيم الديمقراطية في الحياة السياسية للحكومة والبرلمان المتعارَف عليها، والمُطبّقة فعلاً في البلدان الديمقراطية. فهل نجحت الديمقراطية التوافقية بإدخال العراق في المأزق بعد تكريسها دور الأحزاب الطائفية في العملية السياسية؟ وهل وضع العراق أمام مشرحة الطب العدلي، لإطلاق رصاصة الرحمة عليه، بعدما نجحت سياسة المخادعة والمراوغة والتضليل والمراوحة التي اتبعتها القوى الحزبية، بالضحك على ذقون الشعب، الذين كانوا قد حلموا بأن مرحلة خروجه من النفق المظلم باتت قريبةً، وأن حيتان الفساد انتهت أسطورتها، وباتت على أبواب السلطة القضائية للمحاسبة والعقاب؟

حيتان الفساد، جعلوا العراق بقرة حلوباً، تدرُ لهم الذهب والياقوت والعسل واللبن.. من شراسة عمليات النهب واللصوصية في استغلال المنصب الحكومي الرفيع، لعمليات السحت الحرام بلا ذمة وضمير، داست المسؤولية بالحذاء. هم يدوسون بأقدامهم مُقدّرات وكرامة المواطنين، بالمتاجرة والعهر في سوق النخاسة والفساد كأنهم يديرون بيوت دعارة، لا إدارة بلد عريق كالعراق!!

النوّاب الذين أعلنوا «اعتصامهم» داخل مجلس البرلمان وأقالوا رئيسه أمس سليم الجبوري هم، بأغلبيتهم الساحقة، جزء من النظام السياسي الذي تسعى الحركة الشعبية الاحتجاجية إلى إصلاحه، وهم الأبناء والبنات الشرعيّون لنظام المحاصصة، مثلهم مثل الذين دافعوا عن الجبوري، وهم متمسّكون بهذا النظام الذي يحقّق لهم مصالح ومنافع لا يستحقونها، وهم من أهداف مطالبات الحركة الاحتجاجية بالإصلاح والتغيير.

خلال تصفحنا كتاب تشارلز دارون «أصل الأنواع» ووصفه قواعد صراع البقاء وانتخاب الأصلح في تاريخ الطبيعة، وضعنا مقارنة بين قواعد عمل الطبيعة، وقواعد عمل السياسة في العراق، وفشل محاولات الإصلاح الكثيرة. محور نظرية النشوء والارتقاء لداروين، يقوم على أن الطبيعة دقيقة جداً في اختيار الأحسن. ومترجمو عصر النهضة العربي الأوائل، كانوا يستخدمون مفردة «انتخاب الأحسن». والانتخاب الذي تقوم به الطبيعة، يفترض انقراض صور الحياة الأقل إمكانية والأدنى ملاءمة للظروف، وبقاء الأصلح الأقدر على التطور. وقبل أن نسأل: ما بال العراقيين ينتخبون أحياناً «نطيحة» لأخطر المناصب، فإن دارون أخذ يوضح أن الطبيعة لا تكون «حرّة» دوماً في اختيارها، بل هناك «تدخلات خارجية» تستدعي بقاء الأغبى وانقراض الأذكى.

نعم، إن دارون يسمّي هذا الاستثناء بـ»الانتخاب عبر التدخل الخارجي»، ومثاله على هذا، انقراض فصيلة كلاب ذكية وسريعة، وبقاء فصائل أقل ذكاء وأبطأ في الجري، ولعله يفترض في وصف سلسلة الارتقاء أن بعض القرود كانت تستخدم عقولها بكثرة فتطوّرت وأصبحت إنساناً. ولكن ماذا سيحصل لو انقلبت الآية، وترك ساسة العراق استخدام العقل بضعة قرون، كما يجري اليوم؟