على ضوء التطورات الأخيرة، لا يزال القطاع المصرفي اللبناني يعيش على وقع الإجراءات المتشددة الصادرة عن السلطات الأميركية في ما يتعلق بتطبيقات قانون الكونغرس حول أموال "حزب الله"، بالإضافة إلى أخرى متعلقة بمطالبة منظمة الأمن والتعاون الاوروبية لبنان باتباع شفافيّة مطلقة بخصوص الحسابات المصرفية والإجراءات الضريبية الموجودة في مصارفه.

في هذا السياق، من المتوقع أن يزور لبنان مساعد وزير الخزانة الأميركية لشؤون مكافحة الإرهاب دانيال غلايزر، في الفترة المقبلة، للمطالبة بوضع آلية للتأكد من تنفيذ تطبيقات القوانين الأميركية، بعد أن كانت الوفود اللبنانية قد سبقتها إلى الولايات المتحدة لمتابعة هذا الملف الحساس، وكان آخرها وفد من جمعية المصارف برئاسة جوزيف طربيه، ولكن ما تداعيات كل هذه التشريعات على القطاع المصرفي والسريّة التي كانت تتميز بها؟

السرية المصرفية​ تراجعت

يوضح الخبير الإقتصادي اللبناني ​غازي وزنة​، في حديث لـ"النشرة"، أن السرية المصرفية تراجعت على مستوى العالم، لا سيما بعد صدور التشريعات الأميركية والأوروبية في أعقاب الأزمة الماليّة، حيث بات من الممكن أن تطلب واشنطن أو بروكسل من أي دولة الحصول على معلومات عن حسابات مواطنيها بقرار أو برسالة إلى وزارة المالية، ويشير إلى أن النظام العالمي بات يقوم على الوضوح والشفافية، وبالتالي يمكن القول أن تبادل المعلومات الضريبية أضعف إلى حد بعيد نظام السريّة المصرفية.

من هذا المنطلق، يلفت وزنة إلى أن السرية المصرفية على المستوى العالمي أضعفت بسبب تطور المنظومة المالية العالمية ومتطلباتها، في حين تراجعت في لبنان تحت عنوان مكافحة الإرهاب وتبييض الأموال، ويؤكد أن التداعيات ستكون محدودة جداً، نظراً إلى أن المودع لم يعد قادراً على الحصول على التسهيلات التي كانت قائمة سابقاً في أي مكان.

ويشدد وزنة على أن قوة القطاع المصرفي اللبناني تقوم على المتانة والمرونة، بالإضافة إلى إنتشاره في الخارج والفوائد المرتفعة، ويعطي مثالاً على ذلك عمليات فتح الحسابات مع التدقيق في مشروعيتها، ويشير إلى أن نمو القطاع المصرفي في لبنان في السنوات الأخيرة كان على يد اللبنانيين.

من جانبه، يوضح مدير مركز الدراسات الاقتصادية في مجموعة بنك بيبلوس ​نسيب غبريل​، في حديث لـ"النشرة"، إلى أن السرية المصرفية في لبنان لا تزال موجودة، لا سيما أنها قائمة بموجب قانون صادر عن مجلس النواب، ويلفت إلى وجود قانون آخر سمح برفعها عن الحسابات المشكوك بمصادر تمويلها فقط.

بالإضافة إلى ذلك، يشير غبريل إلى أن قانون "فاتكا" الأميركي وضع علامات إستفهام حول إلغاء السريّة المصرفية، لكنه يوضح أن هذا القانون يضع المسؤولية عند المصارف حول العالم للتصريح إلى وزارة الخزانة الأميركية عن حسابات أشخاص مشكوك بهم، وبالتالي هو لا يشمل جميع الأشخاص، كما يلفت إلى قانون تبادل المعلومات مع الإتحاد الأوروبي، ويعتبر أن هذه القوانين قد تخفّف من السرية المصرفية، إلاّ أن النظام المصرفي اللبناني لم يعد يريد العميل الذي يريد إستخدامه فقط للإستفادة منه.

لبنان ملزم بالقبول

وفي حين لا تزال حتى الساعة تطرح بعض الأسئلة حول إمكانية رفض لبنان الإلتزام، يؤكد وزنة أن البلد لم يكن قادراً على رفض التشريعات الأميركية، نظراً إلى أن إقتصاده "مدولر" (نسبة الى الدولار) وكل عملياته المالية تمرّ عبر نيويورك، ولا يرى أن هناك تداعيات خطيرة، لا سيما أن المسؤولين أعلنوا تقيّدهم بالتشريعات والقوانين الأميركية، في حين أن "حزب الله" أكد في الوقت نفسه أن ليس لديه حسابات خاصة أو عمليات ماليّة، وذلك تجنباً لإحراج القطاع المصرفي ووضعه أمام عقبات.

هذا الأمر لا يلغي إمكانية حصول بعض المشاكل، بحسب ما يؤكد وزنة، حيث من الممكن أن يكون هناك تداعيات على بعض الأفراد، بسبب إمكانية أخذ قرارات بناء على معلومات غير دقيقة، ويعتبر أنه في هذه الحالة على المستهدف الذهاب للدفاع عن نفسه أمام القضاء الأميركي، ويؤكد أن الدولة اللبنانية إمكانياتها محدودة على هذا الصعيد، وهي لا تستطيع أن تطلب أكثر من أن تكون الأسماء التي تصدر بحقّها عقوبات دقيقة وجدية كي لا يدفع الأبرياء الثمن.

من وجهة نظر غبريل، نجاح القطاع المصرفي في لبنان يعود إلى الثقة من قبل المودعين به، بالإضافة إلى ثقتهم بإدارة المصارف وليس بالسرية المصرفية.

ويتطرق غبريل إلى المعلومات التي تحدثت عن إمكانية تحول لبنان إلى "جنّة ضريبية"، وفق التصنيف الأوروبي، حيث يشير إلى أن هذا الأمر يعود إلى المعلومات التي تداولتها بعض وسائل الإعلام، ويوضح أن ما صدر يعود إلى ما قبل دخول لبنان في مرحلة قانون تبادل المعلومات الضريبية، وبالتالي هذا الخطر لم يعد موجوداً، نظراً إلى أنه أوفى كل الشروط المطلوبة، كي لا يكون مدرجاً على هذه اللائحة، ويشدد على أن القطاع المصرفي سليم وليس هناك أي مخاطر لأنه شفاف.

أما بالنسبة إلى الإجراءات الأميركية ضد "حزب الله"، يفضل غبريل تكرار المواقف الصادرة عن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على هذا الصعيد، لناحية تأكيد إلتزام لبنان باللائحة التي صدرت عن وزارة الخزانة الأميركية.

في المحصلة، السرية المصرفية لا تزال قائمة في لبنان بموجب القانون، لكن التشريعات الدولية أدّت إلى إضعافها إلى حد بعيد، وفي حين ينظر الكثيرون إلى بعض الإجراءات الأميركية على أساس أنها سياسية بالدرجة الأولى، لا يملك القطاع المصرفي القدرة على الرفض، بل الرهان هو على "نزاهة" و"حيادية" التصنيف في الولايات المتحدة.