لطالما أدهشتـني حلب.. منذ طفولتي وأنا كلما تذكرتها أرتجف وأنا أتحسّس نبضاتِ قلبها وهي تعلو نوافيرَ شغفٍ إذ أتلفـّظ حروف اسمها وأردّد أُحبكِ يا حلب.. يا لهذا الاسم الآرامي الذي بقي ملتصقاً بها منذ سبعة آلاف سنة، حينما كانت عاصمة للدولة العمورية. ومنذ ذلك التاريخ ظلت تلعب أدواراً هامة في التاريخ القومي، لكونها نقطة وصل رئيسة بين شرق سورية العراق والغرب خليج اسكندرونة ، حيث قوافل التجار التي كانت تتكئ على شواطئ سورية.

مرة أخرى لا أصدّق كيف لبعض أبنائها ينتهكون روحها خدمة لـ «لص حلب» أردوغان؟ كيف تطاوعهم أيديهم وهي تقتل براعم حياتها؟ ولكن لطالما كان القتل لعبة الجبناء، فلا يمكنك أن تجد مواطناً حلبياً سورياً شجاعاً يحب سفك دماء أخيه حتى في الحالات القصوى فتكون رؤية ذاك السائل الحياتي غير مرحَّب بها، إلا عند من لوّثته سقطة الخيانة من مرتبة مواطن وإلى أسفل السافلين.

إعداد الإنسان بهذه الطريقة المرعبة يجب أن يتوقف وفق أطر وأفق لا يسمح للدم إلا في سكناه الجسدي فقط.

يا آلهتي يا حلب.. لا أُصدّق أنني أعشقُكِ وأُصدّقُ أنني سأعشقُكِ وأعشقُكِ وأعشقُكِ، وأن دهشتي بكِ كدهشتي بفلسطين يسوع ستبقى سارية المفعول إلى أبد الآبدين.

كلما باغتتني صورة أم وهي تصرخ أو طفلٍ يبكي جائعاً وهو يتحسّس ثدي أمه أحسُ أن موتي يتجدّد!.. فكيف بي أن أعود بحلب إلى ولادتي الأولى وكأنني لم أولد من قبل؟

ها أنني عدتُ لأعتنقَ فكرة أن عشقي لحلب صنو عشقي للموصل، وبيروت، وعمان، ويافا وتوأمها السيامي دمشق، وهو عشق لا يمكن أن يدركه انفصال إلا بالموت.. أنا أعشق، إذاً أنا حلبي من القامشلي!.. هكذا ببساطة وبتلقائية وطفولة.. دون انتظار طويل أو صبر جميل أو ترقـّب وتحسّب وبحث وضجر.. بل بانهمار يحلّ دون سابق تحذير فيغمر كل شيء ويجعل كل الأشياء أبهى وأصدق..

رائحة أفرانك تعطرني مثل أغلى العطور وأجراس كنائسك تجعلني يقظاً كي لا تغمض عيناي عن رؤية حدائقك، ونداء مآذنك تفيضني بهاء ما أن تتسربُ عبارة الله أكبر، وهدوء شوارعك يوشوشني بأنكِ حبيبتي كما ولا أي حبيبة..

وأنا أتذكّر لهفتي إلى سهراتكِ، تتسع ابتسامة قلبي لتحتضنَ الأرض والسماء والكواكب، كلما تذكّرتكِ أضحك في سرّي وأنا أجدني اُردّدُ مرات لا حاجة للسوريين إلاّك كي يكونوا أجمل المواطنين.. وأنام أخيراً ملء طمأنينتي وكأنني أغفو في حضنك فيدثرني فردوس العافية بعد أن صار أرقي سمة الليل وقلقي سمة النهار..

أحبكِ يا حلب، نعم!..

أكتبها ألف ألف مرة على جبيني كأيقونة، وأعبدكِ كأنكِ صورة سوريانا كلها.

ها أنني أقولها ملءَ جوارحي: تحيا حلب حياة سورية رغم غدر الآخرين.