إلى الواجهة، يعود ​قانون الانتخاب​ اليوم عندما تحطّ مشاريع القوانين الانتخابية، التي تخطّت السبعة عشر قانوناً، ضيفة "ثقيلة" على اللجان النيابية المشتركة، التي تواجه مهمّة لا يبالغ المرء إن وصفها بـ"التعجيزية"، بالنظر إلى التباين الكمّي والنوعي على حدّ سواء بين مختلف الأفرقاء في النظرة إلى القانون "الأمثل" للحفاظ على "الكراسي".

وإذا كان كثيرون حكموا سلفاً على عمل اللجان بالفشل، فإنّ علامات استفهام بدأت تُطرَح من الآن حول ما بعد هذه المرحلة، فهل يكرّس قانون الستين نفسه أمراً واقعاً شاء من شاء وأبى من أبى، أم أنّ المهلة ستُمدَّد حتى يتصاعد الدخان الأبيض؟ وماذا لو تصاعد الدخان الأبيض من مكانٍ آخر، وتحديداً من نظام الطائف المتعثّر والذي يبهت اللون الأحمر المرسوم حوله يومًا بعد يوم؟

لا تفاؤل

بما يشبه "المسرحيّة" الهادفة لتمرير الوقت ليس إلا، تنعقد اللجان المشتركة اليوم بعدما أحال إليها رئيس المجلس النيابي نبيه بري قضية إبريق الزيت، قانون الانتخاب، ليُصار لبحث المشاريع المطروحة وتمحيصها، لحين التوصّل إلى حدّ أدنى من التوافق على مجموعة ضيّقة من الخيارات يمكن طرحها في وقتٍ لاحقٍ على الهيئة العامة.

وإذا كانت هذه الخطوة أتت بمثابة "استجابة" من رئيس المجلس لطلب المكوّنات المسيحية التي اشترطت أن يكون قانون الانتخاب بنداً أول على جدول أعمال أيّ جلسةٍ تشريعية، فإنّ المفارقة أنّ معظم النواب لا يستبشرون خيراً بهذه الخطوة، باعتبار أنّ ما عجزوا عن تحقيقه خلال سنوات لن يتمكّنوا من إنجازه خلال فترةٍ وجيزةٍ يحدّدها البعض بالشهر، وإن أصرّ البعض الآخر أنّ أفقها مفتوح.

وعلى قاعدة "من جرّب المجرّب عقله مخرّب"، يقول الكثير من هؤلاء النواب أنّ اللجان سبق أن جُرّبت في موضوع قانون الانتخاب بالذات من دون أن تحقّق شيئاً، مذكّرين بالاجتماعات المطوّلة التي عقدت في المجلس النيابي بعضها بطابعٍ "علني" وبعضها الآخر بطابعٍ "سري"، وأتت نتيجتها أكثر من "مخيّبة"، وبالتالي فإنّ السيناريو سيكرّر نفسه في أحسن الأحوال، علمًا أنّ "البِدَع" اللبنانية التي وصلت إلى قانون الانتخاب باتت بحاجة لمن "يقزّمها"، وإلا فإنّ القوانين ستتضاعف بدل أن تقلّ، خصوصًا بعدما اكتشف البعض "خلطاتٍ عجيبة غريبة" لم يسبق لدولةٍ في العالم أن اعتمدتها، كما الحال مع النظام المختلط، الضائع بين الأكثري والنسبي.

ليتفقوا على مبدأ!

ولانعدام التفاؤل هذا مبرّراتٌ كثيرة، لعلّ أهمّها التباين الشاسع في النظرة إلى قانون الانتخاب، وعدم الاتفاق على مفهومٍ واحدٍ ومحدّدٍ لهذا القانون، إذ وبدل أن يكون المعيار الأساسي في ذلك هو مدى قدرة القانون العتيد على تمثيل المواطنين بالطريقة الأمثل والأفضل، لا يخفى على أحد أنّ هاجس "الكرسي" يتحكّم بتفكير النواب أولاً وأخيراً، إذ إنّ أحداً منهم لا يبدو مستعداً لإقرار قانون لا "يضمن" له الحفاظ على موقعه النيابي في المستقبل، أياً كانت الاعتبارات.

من هنا، فإنّ مبدأ النسبية على سبيل المثال لا يزال مرفوضاً من قبل شرائح واسعة، وهو الذي تتفق أغلب الديمقراطيات على اعتماده بوصفه الأكثر عدالة، كونه يجعل جميع الفئات في المجتمع ممثلة بشكلٍ أو بآخر، بعيداً عن احتكار الأكثرية المطلقة للتمثيل وإلغائها لأيّ رأيٍ آخر. ويتذرّع الرافضون تارةً بالسلاح، من دون أن يتمكّنوا من تفسير أحادية تأثير السلاح في النظام النسبي فقط، وتارةً أخرى يلجأون لـ"تعقيد" النسبية، وكأنّ اللبنانيين غير مؤهَّلين لتطبيقها، وهي ذريعة تشكّل إهانة لأنفسهم قبل غيرهم.

وعلى الرغم ممّا يُحكى عن أنّ "التيار الوطني الحر" و"​القوات اللبنانية​" يعدّان لصيغةٍ محدّدة يتفقان عليها، بعدما تخطى التفاهم بينهما ورقة "إعلان النوايا" إلى "التحالف" الواضح والصريح وصولاً إلى التنسيق في كلّ شاردة وواردة، فإنّ أحداً لا يتوقع أن يستطيعا "اختراع البارود"، في ضوء "الفيتوهات" الكثيرة التي قد يصطدمان بها، وتجربة "​القانون الأرثوذكسي​" لا تزال ماثلة في الأذهان على هذا الصعيد.

المشكلة في النظام...

خلاصةٌ وحيدة يمكن استنتاجها من كلّ ما سبق، ألا وهي أنّ المشكلة تكمن في طبيعة النظام أولاً وأخيراً، والمقصود بالتحديد نظام الطائف، الذي لا يمرّ يومٌ إلا ويكشف المزيد من ثغراته، ولعلّ الوضع الذي وصل إليه لبنان اليوم خير دليلٍ على ذلك، باعتبار أنّه أصبح الدولة الوحيدة في العالم الذي يسمح دستوره بالفراغ في سُدّة رئاسة الجمهورية، ولا ينصّ على أيّ طريقةٍ لملء الشغور في مثل هذه الحالات، ليجرّ الفراغ فراعاتٍ بالجملة في السلطات التنفيذية والتشريعية، كما أنّه البلد الذي سمح له دستوره أيضاً بكسر الأرقام القياسية سابقاً في تأليف الحكومات، لا لشيء إلا لأنّ الدستور لا يقيّد رئيس الحكومة المكلّف بأيّ مهلة محدّدة لتأليف الحكومة، بل يتركها مفتوحة، ربما إلى أبد الآبدين، إذا لم يبادر المكلَّف إلى الاعتذار من تلقاء ذاته.

ولأنّ المشكلة نفسها تتكرّر اليوم مع قانون الانتخاب، طالما أنّ النواب هم أنفسهم المطلوب منهم إقرار قانونٍ انتخابي عصري وحضاري، وكأنّ هناك من يقبل بإقرار قانونٍ معيّن من شأنه القضاء على مصالحه ومراكزه، فإنّ كثيرين يعتقدون أنّ النظام بحدّ ذاته بات يلفظ عملياً أنفاسه الأخيرة، بل أنّ قانون الانتخاب قد يكون بحدّ ذاته البوابة التي ينطلق منها البحث نحو نظامٍ جديد، بغضّ النظر عن المسمّى الذي يمكن اعتماده، بعدما حوّل البعض "المؤتمر التأسيسي" الذي تمّ التداول به سابقاً إلى ما يشبه "الفزّاعة".

وإذا كان هذا البعض نفسه لا يزال متمسّكاً بالطائف، فإنّ القول أنّه لم يطبَّق بالكامل أصلاً ويجب تطبيقه قبل الدعوة لتعديله لم يعد يجدي، خصوصاً أنّ هذا البعض هو من يرفض المسّ بالاتفاق، وهو أيضاً من يقف حجر عثرة أمام أيّ قانونٍ انتخابي عصري من شأنه خلق دينامية جديدة في الوسط السياسي، وبالتالي هو من يحاول تثبيت قانون الستين كأمرٍ واقعٍ، يقول المسيحيون أنّهم لن يخضعوا له باعتبار أنّ زمنه ولّى وأكثر...

من يسبق؟

بين قانون الانتخاب والنظام، شيءٌ واحدٌ يبدو محسومًا، وهو أنّ أحدهما على الأقلّ يجب أن يتغيّر عاجلاً أم آجلاً، فإما "يتواضع" الجميع ويتفقون فيما بينهم على قانونٍ انتخابي عصري وحضاري، وإما يوضع مصير النظام على المحكّ، ليصبح البحث في تغييره أهون الشرّين.

وفي مطلق الأحوال، هناك من يجزم أنّ "ساعة التغيير" ستدقّ عاجلاً أم آجلاً، فحتى إقرار قانون انتخابي لن يكون سوى "مسكّن" بصلاحيات "مؤقتة"، سرعان ما سينتهي مفعولها...