نعيش في لبنان واقعاً لا يخفى على أحدٍ أنّه حربٌ باردة بكلّ ما لهذه الحرب من مقوّمات. في الظاهر، إنّه خلاف سياسي محلّي يعكس الصراعات الإقليمية والدولية؛ كما أنّه تنافر طائفي أو حزبي تاريخي؛ وفي لغة فضائح الفساد الرائجة هذه الفترة، إنّه تقاتل على المصالح الإقتصادية أو تناحر على توزيع الغنائم ومحاصصة السلطة. ولئن صحّت هذه المشهدية، إلاّ أنّ الأساس أخطر، إذ نحن أمام حرب إلغاء فعلية تُستعمل فيها أسلحة متنوعة منها: الإغتيال السياسي، وأوّل المستهدفين: "حزب الله".

في عرضٍ مقتضب للأحداث الحديثة نسبياً لهذا الإستهداف، تطفو مرحلة اتهام "حزب الله" باغتيال رئيس الحكومة الأسبق ​رفيق الحريري​، واللافت بهذا السياق، القدرة الإعلامية في تسخير الأحكام السياسية قبل صدور حكم مبرم من ​المحكمة الدولية​ الخاصة بلبنان رغم عدم الثقة بها والنقد الموجّه لها من فريق كبير من الباحثين القانونيين والمراقبين ورغم وضوح طول المسار قبل بلوغ هكذا حكم، إلاّ في لبنان، تُختصر كل المراحل، بدءاً من مجاهرة طبقة حاكمة بعدم الثقة بالقضاء اللبناني وإحالة القضية إلى القضاء الدولي وصولاً إلى إصدار الأحكام المسبقة.

وفي الأفق، صمت "حزب الله".

وأتت حرب تموز 2006، سُفِكت دماء شهداء ما جفّت ترابهم، دُمّر ما دُمّر في لبنان، اتُهم "حزب الله" بأنّه المسبّب الرئيسي لهذه الحرب، شُوّهت الإنتصارات، نداءات لنزع السلاح، وبالجهة المقابلة علامات استفهام عدّة تُصوَب حول مسؤولين تخاذلوا في دور إنهاء الحرب.

وفي الأفق، صمت "حزب الله".

توالت بعدها ​التفجيرات الإرهابية​ التي استشهد فيها خيرة رجال السياسة والأمن والإعلام والمواطنين، أُطلقت رصاصات الإتهامات السياسية وبراثن الألسن الحاقدة إلى "حزب الله". وفي الأفق صمت "حزب الله".

تمّ استهداف الضاحية الجنوبية كما بعلبك بتفجيرات إرهابية سُفِكت فيها الدماء، قُتِل الأبرياء، دُمِر الحجر لا البشر.

عمليات انتحارية أقدم عليها تكفيريون ولم يعد خفياً مَن يدعم ومن يموّل ومَن يُصدّر الإرهابيين التكفيريين.

وفي الأفق، صمت "حزب الله".

ليأتي ​مجلس التعاون الخليجي​ و​مجلس وزراء الداخلية العرب​ وأيضاً ​جامعة الدول العربية​ ويضعوا "حزب الله" في تصنيف المنظمة الإرهابية؛ تدعم هذا التصنيف جهات سياسية محلية، إقليمية ودولية، تعلو أصوات لبنانية داخلية، تجاهر، تحرّض، تهدّد، تتوعد...

وفي الأفق، صمت "حزب الله".

يسقط شهداء، يقع جرحى، هؤلاء اللبنانيون الباسلون الذين يفدون أرواحهم فداء انتصار المقاومة وبقاء الوطن ويسقطون بصمودهم مخططات الإستعمار والعدوان التكفيري للبنان وتهجير وقتل وذبح وسبي المسيحيين والمسلمين على السواء وباقي أبناء الطوائف المكوّنة للمجتمع اللبناني. عمليات عسكرية يومية يقوم بها "حزب الله" في جرود البقاع وأيضاً طبعاً ​الجيش اللبناني​ الذي لا يتوانى عن الدفاع عن الحدود اللبنانية ومحاربة الجماعات الإرهابية على أنواعها.

والنأي بالنفس من الإعتراف بتضحيات وانتصارات المقاومة سيّد مواقف عدّة، فلا نرى بيانا رسميا يوثّق العمليات التي تستهدف الإرهاب المتربص بالحدود، وأكثر، تلعلع أصوات تتنكّر لدور "حزب الله" وترفض تدخله في سوريا. وهنا بيت القصيد؛

تغفل تلك الجهات عن عقيدة جوهرية للفكر الإرهابي الجامع لكل المنظمات سواء "داعش" أو "النصرة" وغيرها التي تلتقي جميعها حول فكر "القاعدة" الرئيسي الا وهو إلغاء الحدود الجغرافية المرسومة وتمدّد بسط "الدولة الإسلامية" (بمفهومهم) إلى ما بعد الخريطة الحالية بخلق دولة وأمّة جديدة لها سيادة جغرافية خاصة. ويغفل أيضاً هؤلاء عن واقعة أنّ لبنان من ضمن هذا المخطط وما المشاركة بالحرب في سوريا إلاّ خطوة دفاعية عسكرية واستراتيجية استباقية لأي تغلغل أو تمدّد نحو الداخل اللبناني؛ هذا من الوجهة العسكرية، ولن ندخل في بحث الوفاء السياسي لجبهة الممانعة القائمة بوجه العدو الإسرائيلي التي توجب الوقوف بجانب الرئيس السوري بشار الأسد، لنهجه، قبل شخصه؛ لما للبحث من جذوع وفروع تفرض فصلاً مستقلاً.

تُحجَب قناة "المنار" عن "النايل سات"، ويأتيك في صباح أحد عيد فصح المسيحيين المتّبعين التقويم الشرقي مجموعة تعتصم في ساحة الشهداء رفضاً لتدخل "حزب الله" في سوريا وتتكلم باسم الشهداء وكأن الشهيد لا صوت له نابض في أرجاء المعمورة وتنسى أنّ سلاحه لا يغمد، وفي الأفق، صمت "حزب الله".

والصمت المقصود هنا، ليس طبعاً تجاهلاً لخطابات ومواقف الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله الذي يوفي القضية حقّها لا بل ذاك القرار بعدم المواجهة السياسية بالمثل وذاك القصد بعدم إصدار بيانات توثق العمليات العسكرية التي يقوم بها "حزب الله" في محاربة الإرهاب لتُقدّم إثباتا دامغاً وورقة نصر أمام المحافل الدولية يُكشَف فيها من هو الإرهاب ومن هي المقاومة والكفاح المسلّح، ذاك القصد بعدم اللجوء إلى القضاء المحلي وحتى الدولي وعقد المؤتمرات الدولية دفاعا عن حقّ مكرّس قانوناً لمواجهة هذا العداء الفردي والدولي للمقاومة الرامي إلى تزوير الحقائق وإلغائها.

يستحضرنا في هذا المشهد، ما ذكره نائب الأمين العام لـ"حزب الله" الشيخ ​نعيم قاسم​ في كتابه الهام "حزب الله – المنهج... التجربة... المستقبل (لبنان ومقاومته في الواجهة)" في القسم الذي خصصه لرؤيته لمستقبل "حزب الله"، حيث كتب أن هنالك احتمالين للضغط:

أولاً: تحريك فتنة داخلية مع الجيش اللبناني، أو مع قوى محلية، تستدعي أداء سياسياً من الحكم اللبناني يلغي وجود الحزب كمقاومة.

ثانياً: مقايضة سوريا بالتخلص من الضغوطات التي تمارس عليها مقابل التخلي عن دعم الحزب.

وجزم الشيخ قاسم بأنّ الإحتمالين غير واردين مفنّداً الأسباب.

وأنا، إذ أؤمن وأقتنع بهذا النهج أرى أنّ ما ذكره لجهة الإحتمال الأول القاضي بتحريك فتنة داخلية مع قوى محلية سياسية والأساليب المعتمدة في وأد الفتنة قائم على جبهات عدّة لتتخطى الداخل اللبناني إلى عمق القرار العربي ومنه الدولي ما يستدعي توسعا بـ"الإنفتاح" عما كان سابقا "إنعزالاً" وكسر جدار الصمت نحو استراتيجيات رسمية قانونية أمام المجتمع الدولي.

فليستذكر الضمير الوطني والعالمي وبعض الحكومات العربية والغربية أنّ المقاومة حقّ مشروع كرّسته القرارات الدولية وهذا الإلتفاف والتآمر عليها من القوى الإحتلالية في الخارج وحلفائها في الداخل له مفاعيل على المستوى القانوني الدولي فالفرق شاسع بين "المقاومة" و"الإرهاب".

كثيرة هي النصوص االقانونية الدولية والمواثيق الدولية والإنسانية التي تعطي الشرعية للحق بالمقاومة، نذكر هنا المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي نصّت على شرعية حق المقاومة للشعوب من أجل الدفاع عن نفسها إذا داهمها العدو بقصد احتلالها، ونذكّر بالقرار رقم 3214 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1974 والذي كرّس حقّ جميع الشعوب في العالم في المقاومة المسلّحة، ونصّ حرفياً: "أيّ محاولة لقمع الكفاح المسلّح ضدّ السيطرة الإستعمارية والأجنبية والأنظمة العنصرية هي مخالفة لميثاق الأمم المتحدة ولإعلان مبادىء القانون الدولي الخاصة بالعلاقات الدولية والتعاون بين الدول، وللإعلان العالمي لحقوق الإنسان".

أو ليس الإرهاب التكفيري المتربّص بنا والذي زرع في أرضنا الإنتحاريين والذي يغزو جرودنا سيطرة أجنبية ونظاما عنصريا هدفه الإبادة الإنسانية العنصرية الطائفية والتدمير والنهب والإحتلال؟ أوليس من حق الشعب اللبناني مقاومته شرعاً وقانوناً وأخلاقياً وإنسانياً؟

أوليست مزارع شبعا وتلال كفرشوبا أرضا لبنانية محتلة واسرائيل القابعة على حدودنا عدوًا دائمًا؟

إنّ القرارات الدولية والمواثيق الدولية ليست استنسابا، فحزب الله مقاومة شرعية وفقا لها مهما توالت محاولات الإغتيال السياسي فالحقّ مكتسبٌ. اما السؤال... ماذا في مشهد " حزب الله" إن حكى؟