كنتِ البدء قبل مئة عام ولا زلتِ الشاهدة بعد مئة عام، على ولادة هذه الخارطة للهلال السوري الخصيب، باعتبارها رمز «تفوق الغرب وتدخله» في بلادنا، كما يقول المؤرخ ماوروس راينكوفسكي.

انتهى العالم القديم للمستعمر العثماني ووُلد آخر مختلف رُسمت حدوده بمسطرة على مائدة رجلين غامضين، مارك سايكس وجورج بيكو، في صباح لندني غائم. وكان من أبرز نتائجه ظهور كيانات جديدة منها الشام سورية ولبنان والعراق والأردن، وفلسطين التي جعلها بلفور بوعده المشؤوم «وطناً قومياً» للمستعمرين اليهود الذين تقاطروا إليها كالجراد من أصقاع العالم كلها.

لم يخضع تقويض بنية الهلال السوري الخصيب بعد وضع الخارطة الجديدة لأية معايير أخلاقية، وهذا شأن طبيعي، لأن المستعمر يتعامل مع الدول وفق مصالحه، وها هو يعيد صياغة الاتفاق من جديد ووفق معايير جديدة تقسم المقسم بهدف خلق دويلات مذهبية وإثنية وجعل وحدة الحياة التي كانت قائمة في هذه المنطقة، مجرد ذكرى تناثر ريحها مع بدء الدعوة ليهودية الكيان الصهيوني العنصري القائم في فلسطين المحتلة، الذي شرع بموجب اتفاق سان ريمو بوضع فلسطين تحت سلطة الانتداب البريطاني «لمساعدة اليهود على بناء وطنهم» المزعوم.

أي أن الحدود الجديدة لن تُرسم كحدود «سايكس بيكو» القديمة وطبقًا لمصالح القوى العظمى بالمسطرة والقلم فقط، بل طبقًا للحدود الديمغرافية للأقليات والخرائط النفطية وبالدم والأشلاء والصراع الجزئي على المصالح والنفوذ والثروات وبرغبات وميول حق تقرير المصير وأزمة الحقوق والديمقراطية وقيمها الأميركية.

لذا يجب رؤية أن هناك علاقة بين إرهاب «داعش» و«النصرة» على الجميع وبين الهوية اليهودية والهويات الفرعية الأخرى، وهي تحاول رعايتها ودعمها وربما تتوصل الأطراف حتى لحل جزئي للقضية الفلسطينية بحل الدولتين، لكنه لن ينجح على المستوى الاستراتيجي.

لكن الدخان الذي يلفّ الساحات والميادين، وعدد الضحايا الذي يتزايد هنا وهناك وهنالك، وجبل الأوهام الكبير الذي يتراكم باسم «الحرية والديمقراطية»، لا يمكن أن تحجب مجموعة حقائق كبيرة خلاصتها أن المنطقة دخلت فعلاً بعد احتلال العراق مرحلة «الفوضى الخلاقة» التي أعدّ لها «المحافظون الجدد» بالتعاون مع الخبراء الاستراتيجيين الصهاينة.

«الثورة» التي قامت على كذبة أصابع أطفال درعا بكل عنفها وعصفها ودمارها، نجحت في إطلاق مشاريع التقسيم التي قادتها الولايات المتحدة والغرب والكيان الصهيوني، وأحدثت صدمة وهزة في المنطقة، ونشرت في ربوعها الفوضى تمهيداً لإقامة شرق أوسط جديد.

لعلنا نتذكر كيف أقر الكونغرس الأميركي بالإجماع، في جلسة سرية، «مشروع برنارد لويس» في العام 1983، الذي يقوم على ضرورة تفكيك العراق والشام سورية ولبنان على أسس عرقية ومذهبية لتبقى «إسرائيل الكبرى» قائمة على حساب ضياع فلسطين وتفتيت محيطها الطبيعي.