ليس عابرًا ما حدث في "دير القمر" يوم الأحد الماضي، مهما حاول البعض التخفيف من وقعه ومن إرتداداته. فقضاء الشوف الذي كان يتزعّمه كلّ من رئيس الحمهورية السابق ومؤسّس حزب الوطنيّين الأحرار الراحل كميل شمعون، والوزير السابق وأحد مؤسّسي الحزب التقدمي الإشتراكي الراحل كمال جنبلاط، قد تغيّر إلى غير رجعة. وبدأ يتردّد الكثير من الكلام عن أنّ "الشمعونيّة السياسيّة"-إذا جاز التعبير، والتي كانت قد تراجعت إلى أدنى مُستوياتها مع وفاة الرئيس كميل شمعون في العام 1987، وخُصوصًا بعد إغتيال نجله داني في العام 1990، قد تلقّت الضربة القاضية بسقوط آخر معاقلها السياسيّة الرمزيّة، حيث فشل حزب "الأحرار" في إيصال أيّ من أنصاره إلى ​بلدية دير القمر​، مسقط رأس "الشمعونيّة السياسيّة". فما الذي حصل؟

قبل أسابيع من إنتخابات بلدية دير القمر تواصل كلّ من حزبي "القوّات اللبنانيّة" و"الوطنيّين الأحرار" على مُستوى رفيع، وتمّ إبلاغ رئيس حزب "الأحرار" ​دوري شمعون​ بنيّة "القوات" التحالف مع "التيار الوطني الحُرّ" إنتخابيًا في البلدة، وذلك ضمن التحالف الإنتخابي الواسع بينهما، وجرت مُحاولة لإقناع شمعون بالإنضمام إلى لائحة إئتلافيّة. لكنّ رئيس "الأحرار" رفض التواجد على نفس اللائحة إلى جانب "التيّار" بسبب خلافاته المُتفاقمة مع رئيس "تكتّل التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون، ومهاجمته الدائمة له عبر وسائل الإعلام. عندها أبلغت "القوّات" الأحرار عزمها على خوض معركة ديمقراطية جنبًا إلى جنب مع "التيار"، وليربح من يربح. وخشية أن يضع كل من "التيار" و"القوّات" أيديهما على المعقل الأساسي للشمعونيّة السياسيّة في لبنان، وضع كل من رئيس حزب الأحرار والوزير السابق ناجي البستاني خلافاتهما على الزعامة المحلّية في "الدير" جانبًا، وتوافقا على مُواجهة لائحة "دير القمر بلدتي" المدعومة من "التيار" و"القوات" بلائحة مُشتركة باسم "القرار لدير القمر".

وخلال عمليّات الإقتراع وبسبب إنعدام الثقة بين مناصري النائب شمعون والوزير السابق البستاني، وبسبب صراع نفوذ على المنطقة منذ عُقود، لم يكن التصويت مُتماسكًا وكاملاً للائحة المدعومة من قبلهما، فحصلت عمليّات تشطيب مُتبادلة، جاءت على نطاق أوسع وأكبر بكثير من جانب مُناصري البستاني، لاعتبارات عائليّة قديمة بين آل شمعون وآل البستاني، إضافة إلى عدم الإنسجام بين النائب شمعون والوزير السابق البستاني، حيث أنّ التحالف المُستجدّ بينهما جاء على عجل وبناء على مصلحة مُشتركة لا أكثر. وقد أدّى هذا الأمر إلى نجاح 6 من المُرشّحين المدعومين من قبل البستاني، في إختراق اللائحة المُرشّحة من قبل "التيار" و"القوات" والتي فازت بمجموع 12 من أصل 18 عُضوًا، بينما سقط جميع المرُشّحين المُؤيّدين من قبل شمعون، لتصبح الضربة التي تلقاها نجل رئيس الجمهورية السابق مزدوجة، وتتمثّل بخسارة اللائحة المدعومة من قبله، وبفشل المرّشحين المدعومين من قبله بتسجيل خروقات ولو رمزيّة للائحة المُقابلة. وأثّر المنحى العائلي في دير القمر على اللائحة المُقابلة المدعومة من "التيار" والقوات" التي طالتها عمليّات التشطيب من بعض الناخبين أيضًا، وكان لافتًا أنّ شقيق النائب ​جورج عدوان​، المُرشّح بطرس عدوان فشل مع خمسة مُرشّحين آخرين، في الفوز بعُضويّة المجلس البلدي، حيث طالته عمليّات التشطيب بنسبة كبيرة في دلالة لها معانٍ رمزيّة مُوجّهة بالدرجة الأولى إلى النائب عدوان شخصيًا، وليس إلى ما يُمثّله.

وبعد إنتهاء عمليّات التصويت، جاء وقع النتائج مُدويّا على مُناصري حزب "الوطنيّين الأحرار" الذي كان في النصف الثاني من القرن الماضي يملك كتلة نيابيّة كبيرة، والذي كان رئيسه المؤسّس يتقاسم نفوذ الشوف مع الزعيم الإشتراكي، ولكل منهما كلمة مسموعة في كل لبنان، ودور حاسم في مجريات الأحداث على كامل الخريطة اللبنانيّة. وبحسب تقييم داخلي في "الأحرار" فإنّ ما حصل يتجاوز مسألة تقاعس مجموعة من "الشمعونيّين" عن التوجّه من بيروت إلى "الدير" للتصويت يوم الأحد الماضي، كما قال النائب دوري شمعون، ويعكس حالاً من الترهّل أصاب "الحزب" على مدى ربع القرن الماضي لأكثر من سبب وعامل. فرئيس "الأحرار" عانى من قمع واضطهاد في زمن "النظام الأمني السوري-اللبناني"، أي من مطلع التسعينات حتى العام 2005، وهو فشل في إستنهاض الحزب بعد هذا التاريخ، حيث لم يُؤمّن أي مصدر دعم مالي مهمّ لهذه المهمّة، كما فعلت باقي الأحزاب المسيحيّة، ولم يُوفّر الدعم المطلوب ولا "الضوء الأخضر" لمسؤولي "الأحرار" لإستنهاض القواعد الراكدة، ولجذب جيل جديد من المُحازبين والمُناصرين. وبسبب تقدّم النائب شمعون في العمر (سيبلغ في تشرين الثاني المقبل 85 سنة) وتراجع حماسته للعمل السياسي، تراجع نُفوذ "الأحرار" أكثر فأكثر، خاصة في ظلّ سعي مُستمرّ من قبل كل الأحزاب الأخرى لقضم حصص "الحزب" على مُختلف الصعد. والنائب شمعون الذي تحوّلت علاقته بالعماد عون من مُؤيّد أساسي في التسعينات، إلى خصم شخصي بعد عودة "الجنرال" (بسبب رفض "الجنرال" أخذ مرشّحين من الأحرار على لوائحه الإنتخابية بداية، ثم نتيجة دخوله في تحالف مع "حزب الله")، لم يتقرّب من حزبي "القوّات" و"الكتائب"، وبقيت علاقاته معهما أسيرة تشنّجات الماضي. وإضافة إلى التحرّك في شبه عزلة سياسيّة، لعب تقصير النائب شمعون عن القيام بالواجبات العائليّة التي يقوم بها النوّاب في لبنان، وعن المُشاركة في المناسبات الإجتماعيّة إلا في ما ندر، وعدم تواصله الدَوري مع الناخبين، دورًا سلبيًا إضافيًا في تراجع النفوذ "الشمعوني" في دير القمر وسواها.

وبعد الخسارة الكبيرة في الإنتخابات البلديّة في "دير القمر"، والتي شكّلت النقطة التي أفاضت الكوب، أقرّ أكثر من مناصر مُلتزم في حزب "الوطنيّين الأحرار" من داخل "الدير" ومن خارجه، أنّ الحزب يتجه إلى الإندثار، وأنّ إرث الرئيس الراحل كميل شمعون سيتحوّل إلى ذكرى في كتب التاريخ، ما لم يتم أخذ قرار صعب يتمثّل في تنحّي الرئيس الحالي للحزب من دون أيّ تأخير، لصالح قيادة شبابيّة جديدة تُعيد إستنهاض "الوطنيّين الأحرار"، أو على الأقلّ تُحاول ذلك. فهل سيستقيل النائب شمعون من موقع رئاسة الحزب، خاصة وأنّه أكّد أكثر من مرّة أنّه غير مُتمسّك بالمنصب ولم يسع يومًا إليه، بل قادته الظروف إلى حيث لا يُحبّ؟ الأيام المُقبلة ستجيب عن ذلك...