مئة عام مرت على توقيع إتفاقية سايكس- بيكو التاريخية، في 16 أيار من العام 1916، التي أدت إلى تقسيم المنطقة إلى دويلات، بموجب الإتفاق الفرنسي البريطاني، بين وزيري خارجية البلدين ​جورج بيكو​ و​ماركس سايكس​، في حين كانت روسيا القيصرية شاهدة عليها، قبل أن تعلن إنسحابها في أعقاب ثورة البلاشفة في العام 1917، التي أدت إلى إسقاط النظام الذي كان يسعى إلى أن يكون شريكاً في تقاسم مستعمرات الأمبراطورية العثمانية السابقة.
في العام المئة، تطرح الكثير من الأسئلة على طاولة البحث حول إمكانية إنتهاء الأسس التي قامت عليها هذه الإتفاقية، خصوصاً أن المعطيات العسكرية والدبلوماسية توحي بتحولات كبرى على مستوى الشرق الأوسط، بدأت من الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، ولم تنته بالحرب السورية، حيث ظهرت في الأشهر الأخيرة مناطق نفوذ واضحة المعالم، لعبت الجماعات الإرهابية، لا سيما تنظيم "داعش"، دوراً أساسياً في رسمها.
بموجب سايكس- بيكو، وضعت كل من فلسطين و​العراق​ والأردن ومصر تحت مظلة النفوذ البريطاني، الأمر الذي أدى إلى ولادة إسرائيل برعاية مباشرة من لندن، في حين كانت سوريا ولبنان والمغرب من حصة الدولة الفرنسية، أما اليوم فتتصدر المشهد كل من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الإتحادية، في وقت يبرز فيه دور العديد من القوى الإقليمية الفاعلة، خصوصاً تركيا وإيران، من دون إهمال العامل الإسرائيلي الذي يبقى حاضراً في جميع الملفات.
قبل الإنتقال إلى ما يجري على مستوى الشرق الأوسط، ينبغي الإشارة إلى أن مظاهر ولادة دول جديدة كانت قد بدأت من السودان، التي باتت دولتين، شمالية وجنوبية، أما فلسطين فهي مقسّمة إلى 3 مناطق أساسية: قطاع غزة الذي تسيطر عليه حركة "حماس"، الضفة الغربية التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية، الأراضي المحتلة التي تديرها الحكومة الإسرائيلية بشكل مباشر، مع العلم أن تل أبيب لعبت دوراً بارزاً في دعم إنفصال جنوب السودان عن شماله.
بعد الغزو الأميركي لبلاد الرافدين، نتيجة إسقاط نظام الرئيس العراقي الراحل ​صدام حسين​، ظهر إلى العلن مخطط تقسيمها إلى 3 مناطق نفوذ، عبر ما بات يعرف بمشروع بايدن، نسبة إلى نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، وفي ضوء الأحداث الحالية، التي إجتاحت المنطقة بعد أحداث ما يسمى بـ"الربيع العربي"، خرج رئيس إقليم كردستان العراق ​مسعود برزاني​ إلى القول بأن المنطقة باتت تحتاج إلى إتفاقية دولية جديدة، نظراً إلى رغبته بالإنفصال عن الحكومة المركزية في بغداد، نتيجة الخلافات المتعددة معها، بالإضافة إلى بروز نجم "داعش"، الذي نجح في إحتلال أجزاء كبيرة من العراق، خلال ساعات معدودة، بعد "غزوة" الموصل الشهيرة.
في المرحلة الراهنة، ستكون الساحات السورية واليمنية والليبية هي المقررة، نظراً إلى أنها تعيش مخاضها الخاص من دون أن تظهر حتى الساعة مؤشرات نهائية، إلا أن المشترك فيها هو دور الجماعات الإرهابية، سواء تلك التي تدور في فلك "داعش" أو المنتمية إلى "القاعدة"، ففي اليمن دور الأخير كان واضحاً في المعارك التي تخاض ضد قوات حركة "​أنصار الله​" والرئيس السابق علي عبدالله صالح، في حين تتصاعد الدعوات الجنوبية إلى العودة للإنفصال عن الشمال، بدعم مباشر من بعض الدول الإقليمية، مع العلم أن اللجنة المكلفة بتحديد الأقاليم في شكل الدولة الجديدة كانت قد إعتمدت، قبل إندلاع الحرب الأخيرة، صيغة تقضي بتقسيم اليمن إلى 6 أقاليم، 4 في الشمال و2 في الجنوب، إلا أن "أنصار الله" رفضتها سريعاً، نظراً إلى أنها تحرمها من منفذ بحري، بالإضافة إلى حرمانها من التأثير على مناطق النفط في محافظة الجوف.
في ليبيا، التي شهدت نمو "داعش" على نحو لافت في الأشهر الأخيرة، يبدو أن القوى الغربية، لا سيما الأوروبية منها، ذاهبة إلى تقسيمها إلى 3 مناطق نفوذ: طرابلس من حصة إيطاليا، برقة من حصة بريطانيا، فزان من حصة فرنسا، تحت عنوان مكافحة الإرهاب، في الدولة الواقعة التي من أراضيها هدد التنظيم الإرهابي بغزو روما، عندما أقدم على إعدام العمال الأقباط ذبحاً على شاطىء البحر، مع العلم أن الدول الغربية، التي شاركت في إسقاط الزعيم الليبي الراحل ​معمر القذافي​، لم تتردد في إستخدام الفصائل والقيادات التي تدور في فلك "القاعدة" لتحقيق هدفها.
بالنسبة إلى سوريا، يمكن القول أن الواقع لا ينفصل عما هو موجود في العراق، فعندما سقطت بغداد، في العام 2003، كان الكثيرون يرون أن طبولها المقبلة ستقرع في الشام، وهو ما ظهر من خلال الشروط التي سعى وزير الخارجية الأميركي كولن باول إلى فرضها على الرئيس بشار الأسد، لكنها تأخرت 8 سنوات حتى تظهر بالتزامن مع "الربيع العربي".
وبعد مرور أكثر من 5 سنوات على الحرب، ظهرت أولى بوادر التقسيم عبر إعلان ​الأكراد​ عن إنشاء فيدرالية خاصة بهم في الشمال، في حين تسعى تركيا إلى حجز موقع لها في الريف الشمالي لمدينة حلب، بعد فشلها في السيطرة الكاملة على المدينة وأريافها، في وقت لم تظهر الصورة التي ستكون عليها الأوضاع في المناطق الشرقية، بعد تحريرها من "داعش"، فالتنظيم الإرهابي لن يستمر سنوات طويلة، لكن السؤال عن البديل هو الأساس، خصوصاً أن الجانب الإسرائيلي كان أول من دعا إلى دعم الخيار الفيدرالي في سوريا، في ظل الإتفاق على تقاسم مناطق النفوذ بين موسكو وواشنطن.
في المحصلة، عاد خطر التقسيم إلى المنطقة عبر بوابة الجماعات الإرهابية، في الذكرى المئوية لـ"سايكس- بيكو"، لكن هل تتحول المخططات الموضوعة إلى أمر واقع في السنوات المقبلة؟