بدا مفهوم التعدّديّة السياسيّة في لبنان مع الإنتخابات البلديّة قاصراً لتفسير ما يقصده اللبنانيون عند إستعماله لسببين:

الأوّل أنّ التعدّدية السياسيّة متناقضة،تشوبها المصالح. هي لا تفرز ثبات العدد المعروف بصدقيته وصحّته بل تضعهم أمام الكميّة الحاملة للخطأ لا النوعية الحاملة للإبتكارات. هذا المفهوم يسقط الغنى الإنساني الذي خزّنته الأعداد منذ أن فتن به فلاسفة الإغريق مقيمين عمارة التفكير والتطوير فوق السؤآل والجواب.

الثاني أنّه إستعمال يزاحم الإشكاليات والأحداث ويورث الأحقاد في ميادين السياسة بمعنى السلطة لأنّ الأثقال المتمثّلة بالمذاهب والأحزاب والجمعيات تستحضر فتتقزّم الى نطاق الجماعات والعائلات الضيّقة.

ولأنّ "البايت" بمعناه الرياضي الحديث هو "بطل" الحضارة المعاصرة وتتزاحم حوله أجيال الإتّصال والإعلام اللامتناهية، فهو يمكن أن يحتلّ الحواس الذي يبشّرنا بتوحيد اللبنانيين والعرب وحتّى البشر فيخرجنا من العدد الى النوع أو التنوّع حيث تتوسّع مساحات الحريّة والإبتكار في رقي الوطن. أمامنا بلدان نماذج على ذلك، ليس في الغرب، بل في الخليج لمن يقرأ بموضوعية وأكاديمية صافية في أبو ظبي ودبي وغيرهما من التفكير بإنسانية المواطن.

الكلام عن التنوّع أسلم علمياً كونه يطال الإنسان، مع أنّ الكلام عن المواطنة أو المواطنية بات على الموضة لكنّ معناه المضمر لم يصل الى الهويّة الراسخة بعد، لا لأنّنا تأخّرنا وتمسّكنا بالماضي ورفض الغريب، بل لأنّ الهوية بمعناها المألوف باتت مائعة في عصر العولمة لا في لبنان وحسب وإنّما في معظم دول العالم. لفت نظري موجة متحرّكة شهدناها في بحرالإنتخابات البلدية والإختيارية في لبنان، يمكن إختصارها بدورالرقابة البديلة والإستقصاء وكشف الحقائق مهما تجمّعت الجهود لطمسها وتحقيرها.الإنسان المقيم أو المستورد إنسان لطالما هو فوق بقعة يعيش وينمو ويتناسل فوقها.

التنوّع الحيوي يتجاوز التعدّدية بالوعي وهو جسر نحو المواطنية بمعناها الحديث. يختزن ضرورة الإهتمام بالأجيال الشبابية وتطمينها بالسهر على مستقبلها بما يكفل الأصول في أزمنة الإندثار. لماذا؟

لأنّ فقدان الأصول والهويات والأوطان أو تثبيت الوجوه والمرجعيات في البرلمان والحكومة والسياسة يقتل التغيير، ويتسبّب بكوارث، مخالف لا لقوانين الأوطان وتقدّم الحضارات وإزدهارها بل لقوانين الكون البيولوجية التي إذ يخلّ البشر بتوازناتها ترميهم في التخلّف والمعضلات الكبرى، ويربك العقل المحلّي بحثاً عن صور الرفاه والإستقرار والإزدهار. لا يمكنك أن ترمي صغيرك رقماً في الوعر بهدف النجاح وأولاد العالم أمامه في الجنائن الخضراء.

لهذا أخلص الى تنبيهين:

1- أنّ الطريق طويل ووعر وشاق في إعادة تأسيس القواعد النظرية لمفهوم التنوّع الحيوي وسحبه على تطبيقات السياسة والعمران والحضارة البشرية. ولا خجل في التعرّف على التجارب القريبة منّا جدّاً والنزول عن سلّم التشاوف الموروث الذي يبقينا حيث نحن.

2- للشاشات باحجامها الزجاجية حضور متقدّم ومتفوّق وجريء جدّاً من ناحية لكنّها تغالي في تكديس الأحلام والأساطير السائدة عن التنوّع من ناحية أخرى بما يضعف القدرات العلميّة الطالعة في الإستشراف أو التنبّؤ لا بمستقبل هذا التنوّع وحسب، بل على الأوضاع العلمية والإدارية والسياسية في رسم ملامح المستقبل.

كتب الشاعر الفرنسي رينيه شار أنّ التغيير هو في محاولة الحاكم الصداقة الدائمة مع الأجيال والكشف عالمٍ بحاجة دائمة الى الكشف.

وبكلمة واحدة ينسى المسؤول أحياناً كثيرة أنّنا كبشر خرجنا من بصمات الأصابع في كشف الشخصيات البارعة الى بصمات الأعين والخريطة الجينية التي قلبت العالم والعلم رأساً على عقب، وجعلتنا في حالة وقوف متعثّر أمام مسائل معقدة مثل شخصيات الأفراد والجماعات والقرارات والسلطات والرغبات وغيرها.

صار الإتّصال حاجة معاصرة فذّة وملحّة لدى أولادنا وأحفادنا والأجيال الصغيرة التي تقارعنا وترفضنا وتصحّح خطواتنا وآرائنا. تلك أجيال تنام والعالم مرمي تحت وسائدها أو قرب أسرّتها ساهراً في التقنيّات الفائقة الدقّة المتمثّلة بأجيال الهواتف الذكيّة المحمولة. خرج الإتّصال والتواصل مع أنحاء الدنيا من كونه رغبة يمكن القفز فوقها أو حجبها الى كونه حاجة العصر المتقدّمة. وفي هذا المجال يبرز الفرد أو الإنسان الإنترنتّي العالمي صاحب هوية كونية تتجاوز في سلوكها وطموحاتها الأعداد والتنوّعات في أوقات لهوه وإتّصالاته وعمله وطموحاته في الرقي والتغيير.

أفرزت هذه الحاجة وعياً ملحوظاً للمشاركة في صنع القرار أو للرضى الوفير عن تفكير الآباء والمسؤولين بها. ولا يضير رموز السلطة من المنزل الى المجتمع إن سمعت أصواتاً صاخبة في نقد السلطات أو تمزيق يافطات الحريّة والنزاهة التقليدية وكشف المحرّمات والممنوعات والتجاوزات. وهنا يجب الإنتباه في لبنان تحديداً، أنّنا نمرّ في مرحلة إنهيارات الدولة ومؤسساتها بين أيدي العديد من حكّامها القابضين أو المشاركين في القطاع الخاص الذي يحاول إعادة إنتاج مستقبل وطنهم من عرق المواطنين حيث لا مقابل في الخدمات، وحيث يفرض الواقع المرير عليهم تمنّي رؤية بلدهم كما بلدان العالم التي هجرتهم كما يحصل في عزوف أهل الخليج عنهم لأسباب متعدّدة.

وينعكس هذا التناوب القاسي بين الخاص والعام في مفهوم الدولة على وسائل الإعلام في هجوم وإختلاط عجيب معقّد للشركات الكبرى ورجال الأعمال والتجّار والأحزاب والطوائف والسياسيين وكلّها تنخرط في مهن الإعلام في عصر الفضاء. تختلط السياسة بالنفوذ وبالمال، فتتعدّد الأطروحات والبرامج ووجهات النظر بما يوحي بقشرة الحريّة والديمقراطية وهذه التعدّدية لا توصل الى سياسة عصرية ولا الى تعدّدية نظيفة ولا الى حريّة. تنتفي التعدّدية ولا تعود تعني للناس أنّها تكفل الحريّة كما تخسر الصحافة الخاصّة من صدقيتها فلا تعود تعني للناس من أنّها تكفل حريّة الصحافة، وتفقد النخب الإعلامية مع الوقت صدقيتها من كونها تظهر بصورة كونها تمتلك الحقائق أكثر من الناس.

وهنا يحصل الهروب الى الإعلام الخارجي ويقوى إذ يعكس الخاص الأنظمة الثقيلة القائمة، وعندما يتيقّن الناس أنّ إستبدادية تلاحقهم في جميع الميادين ملوّنة بالمصطلحات المستوردة القائلة بالحرية والديمقراطية، ولأنّهم طوّعوا أصابعهم التسع في خدمة السلطة يرفعون سبّباتهم ويهربون نحو وسائل التواصل الإجتماعي بهدف التعبير والتغيير.

قد لا ينتبه المسؤول أنّ وسائل التواصل الإجتماعي أغرت شرائح الشباب لأن تلعب بأصابعها نقراً فوق رؤوس الفئران التكنولوجية التي تؤسّس للتربية على الحريّة والإلحاح في بناء المجتمعات الراقية والإعتراف بقدرات الآخرين على التفكير والتغيير وإعادة الثقافات والحضارات، ولا يهمّها أبداً إن كانت تنضوي منصاعةً لإستبدادية لطيفة جامحة لذيذة وغير محسوسة تتمثّل بالعين العالميّة المقيمة في الزوايا كلّها.