كان الاجتماع الاسبوعي لتكتل التغيير والاصلاح قد انتهى للتو. نزل النائب ابراهيم كنعان الى الطابق الارضي من دارة العماد ميشال عون للبحث في عدد من المواضيع، في انتظار مجيء فريق الامن التابع لرئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع في زيارة استطلاعية، اذ من المفترض ان يزور جعجع الرابية بعدها بأسبوع، لتوقيع "اعلان النيات". لكن "الحكيم" فاجأ الجميع، فحضر قبل الموعد، ليتحوّل الثاني من حيزران 2015، الى يوم "اعلان النيات" بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية.

سنة على الحدث الذي اعتبره البعض "ثنائية مسيحية" في وجه الآخرين، فيما اراده صانعوه ركيزة للوحدة المسيحية في سعي الى استعادة الشراكة الوطنية. من هذا المنظار يرونه، ولهذه الغاية عملوا على تحصينه وحمايته على مدى اثني عشر شهراً. فالمولود الذي طوى ثلاثين عاماً من المواجهات العسكرية والسياسية، يحتاج الى رعاية وحماية، طالما أن المتضريين منه ليسوا بقلائل، داخل البيت المسيحي، وعلى المستوى الوطني، وربما الاقليمي والدولي، ممن لا يريدون عودة المسيحي ليعلب دوره كاملاً في التركيبة اللبنانية.

بعيد الاعلان، انطلقت الترجمة العملية للنيات، وبدأت بالمواطنين والقواعد الشعبية صعوداً الى القيادات والمرجعيات، عبر لقاءات، مع قاعدتي الفريقين لتفسير بنود الاتفاق الذي أدى الى تنسيق نيابي ونقابي وطالبي واسقاط دعاوى متبادلة بين الطرفين بعد 30 عاماً من العداوة.

نظر البعض الى "اعلان النيات" كمجرد ورقة سيجف حبرها في اليوم التالي، وذلك استناداً الى سوابق تاريخية، إن بين المسيحيين، او لدى المسلمين، او في المساعي التي بذلت في محطات معينة، لتقريب وجهات النظر بين المكونين المسلم والمسيحي. لكن الأيام مرّت لتثبت أن ما حصل بين الجانبين، وجد ليستمر.

البداية من النهاية. فقبل ايام انتهى الاستحقاق البلدي والاختياري الذي جمع من بينهم خصومة تاريخية في وجه الثنائي المسيحي. خلال التحضير لانتخاب المجالس المحلية، اعتقد كثيرون ان ما لم تفرّقه الاشهر الماضية، ستنجح بفعله الانتخابات البلدية. ولكن، مرة جديدة، لم تأت النتائج بما اشتهته رغبات المتضريين، فتحالف التيار مع القوات حيث امكن، وتنافسا بلا خصام حيث لم ينجحا في ان يكونا في صف واحد.

قبلها، كانت المحطة في المجلس النيابي. لم تنعقد الجلسة التشريعية في تشرين الثاني 2015، الاّ بعدما حصلت الكتلتان المسيحيتان على "استعادة الجنسية" على جدول الاعمال. وهو الاقتراح الضائع بين ادراج المجلس النيابي منذ سنوات. تمكّن الضغط العوني القواتي من اعادة الاقتراح الى الضوء، وصولاً الى تحويله الى قانون نافذ، وذلك بعد شدّ الحبال الذي افضى الى المعادلة الآتية: لا ميثاقية لاي جلسة لا يشارك فيها نواب التيار والقوات بما يمثلان ومن يمثلان.

مرة جديدة ظلّ البعض ينظر الى مفاعيل "النيات" بعين الانتقاد، لا سميا أن الملف الاساس، رئاسة الجمهورية، بقي موضع خلاف بين الجانبين، ليتفاجأ الجميع مجدداً بأن عرابي التفاهم المسيحي يعملون بصمت على القلم والورقة. عشرات اللقاءات والاتصالات والصيغ التي خضعت للنقاش والتنقيح، افضت في الثامن عشر من كانون الثاني 2016 الى ما لم يكن في الحسبان: سمير جعجع يتبنى ترشيح ميشال عون لرئاسة الجمهورية. خطوة قلبت الكثير من الموازين، وكرّست عون مرشّحاً ميثاقياً وحيداً للاستحقاق. هنا ايضاً، خرج من يقول إن جعجع بدا مجبراً وليس مقتنعاً بالمسألة، بعدما تخلى عنه رئيس تيار المستقبل سعد الحريري بترشيح سليمان فرنجية للرئاسة. لكن الايام مرّت لتثبت قناعة الطرفين فيما توصلا اليه، وهو ما كرره جعجع في اطلالته التلفزيونية الأخيرة منذ يومين.

امس، وقبل ان يرتشف قهوة الصباح، كان كنعان يعايد ويعد بذكرى النيات، معتبراً ان "ليس الانجاز أن تختارك الصدفة او أن تلتقطها أو تصعد موجتها، بل أن تصنع التاريخ في بحرٍ من التشكيك والطعن...ينعاد على المسيحيين بمزيد من الوحدة وعلى صانعي التاريخ بمزيد من الإنجازات". قبل ان يجيب الرياشي "لمرةٍ اقترفت خطيئة لا تستحق فعل الندامة. تحية من القلب الى نيات التيار والقوات"، مردفاً "قد نسقط، لكن الأبطال من يقفون ويسيرون من جديد...نحن في اول الطريق والحراس ما رح ينعسوا".

بعد اثني عشر شهراً على حدث الثاني من حزيران، يؤمن "اهل المصالحة" بأن لا شيء مستحيلاً اذا ما توافرت الإرادة والنية الصادقة للتوصل الى اتفاقات من هذا النوع. ومع هذا الايمان، اقتناع آخر باليد ممدودة الى الجميع، الحلفاء وغير الحلفاء. وبعدما اطفأ شمعته الأولى، يتابع التفاهم المسيحي نموّه على طريق ترسيخ الشراكة واستعادة الحضور في المؤسسات والادارات. افرز ستاتيكو جديداً في المعادلة اللبنانية، فبات التعاطي مع ما قبله يختلف عما بعده، في الرئاسة والمجلس النيابي وادارات الدولة. تقول المعلومات غن زمن المفاجآت لم ينته، وأن هناك ما يحضّر للايام المقبلة، لن يكون الاتفاق على صيغة موحدة لقانون الانتخاب آخره.